حميد الكفائي يكتب | في وداع الملكة إليزابيث.. بريطانيا بين التقليد والتجديد (٢ – ٢)

0 398

تمتعت الملكة الراحلة بعلاقات جيدة مع كل رؤساء الوزارات في عهدها، ربما باستثناء أدوارد هيث، الذي كانت العلاقة معه صعبة كما يصفها ثورب، لأن لديه رؤية مختلفة حول وجهة بريطانيا المستقبلية، إذ كان يسعى لأن تتكامل بريطانيا مع الاتحاد الأوروبي، وهو مسعى يتعارض مع رؤية الملكة، التي تود التركيز على دور بريطانيا القيادي في دول الكومنولث وليس في أوروبا.

توني بلير وديفيد كاميرون كان لديهما توجه أوروبي أيضا، لكنهما حكما في عهد متأخر، عندما أصبحت فكرة التقارب مع أوروبا مقبولة لنصف الشعب البريطاني على الأقل.

تميزت الملكة الراحلة إليزابيث الثانية بشخصية محببة، نالت إعجاب معظم قادة العالم وشعوبه، ناهيك عن الشعب البريطاني الذي يجلُّها، وقد زارت مئة بلد أثناء عهدها، واستُقْبلت رسميا وشعبيا بحفاوة بالغة. والتقت بكل الرؤساء الأميركيين، ما عدا ليندِن جونسن الذي أغضبته سياسة بريطانيا تجاه كوبا وتعاملها التجاري معها وبيعها ألف حافلة في عهد رئيس الوزراء العمالي، هارولد ويلسون.

ومما يحسب للملكة الراحلة أنها كانت دائما تتحسس مشاعر الناس، ولم تعِش في قصر عاجي، منعزلة عن مواطنيها.

في تسعينيات القرن الماضي مثلا، أثيرت قضية عدم دفع العائلة المالكة للضرائب، وهو تقليد يعود إلى قرون خلت عندما كان الملك يملك ويحكم، وعندما كانت الضرائب تُجبى له. لكن العاهل صار، منذ عدة قرون، يملك ولا يحكم.

وقبل أن تتطور القضية وربما تخضع للنقاش في البرلمان، وتلقي بظلالها على سمعة العائلة المالكة، أعلنت الملكة أنها سوف تدفع الضرائب، كباقي أفراد الشعب، وقد حظي قرارها بإعجاب الجميع، بمن فيهم القلة الذين يعارضون النظام الملكي.

اهتم الأمير تشارلز بفن العمارة، رغم تخرجه من جامعة كامبردج في علم البشريات (الأنثروبولوجيا)، وأبدى أراءً جدلية في العديد من القضايا من البيئة إلى الصحة إلى المشاريع العمرانية، بل حتى في الأشخاص المكلفين بترميمها أو إنشائها. اعترض مثلا على توسعة المتحف الوطني، واعترض أيضا على ترميم “ثكنة تشالسي”، وكَتَبَ للقائمين عليها بأن اختيارهم للمعمار والمصمم الحداثوي، ريتشارد روجرز، غير موفق. لكنه وعد في مقابلة تلفزيونية قبل أربع سنوات بأنه لن يتدخل في القضايا التي تدخل فيها سابقا عندما يصبح ملكا وقال إنه سيسير على خطى والدته.

اهتم الأمير تشارلز بالأحياء الفقيرة وزار عددا منها واقترح طرقا لتطويرها وجعلها أكثر ملائمة للعيش. ولدى تشارلز نزعة عصرية لتطوير النظام الملكي، وقد عبَّر عن ضرورة تغيير صفة الملك البريطاني من (حامي الدين) إلى (حامي الأديان) باعتبار أن المجتمع البريطاني الآن متعدد الأديان والثقافات والعقائد والمشارب والإثنيات. لكن صورته تأثرت سلبا بعد خلافه مع زوجته الراحلة الأميرة المحبوبة دايانا ثم تطليقه إياها، وإعادة علاقته المقطوعة بصديقته السابقة، كميلا باركر-بولز، التي تزوجها عام 2005، لكن هذه القضية لم تعد تستقطب اهتمام الناس لأنها أصبحت تأريخاً قديماً.

أهم ما يميز النظام الملكي البريطاني هو القدرة على التكيف، رغم التمسك الظاهري بالتقاليد، ولا شك أن الملك تشارلز، الذي يحمل فكرا عصريا متطورا، سوف يجدد النظام ويزيل العديد من العقبات التي تحدت الزمن بحجة المحافظة على التقاليد، وسوف يجعل الملكية متسقة مع العصر وذات علاقة بحياة الناس.

وضمن حسابات الربح والخسارة، تعتبر العائلة المالكة مصدرا مهما من مصادر الدخل في بريطانيا، إذ تمثل الآثار والقصور والمباني الأثرية والتقاليد الملكية معالم رئيسية يؤمها السياح من مختلف أنحاء العالم، وهذا يشكل إيرادا مهما يعزز الاقتصاد البريطاني.

لا شك أن غياب الملكة إليزابيث الثانية، التي أَلِفَ البريطانيون شخصيتها المحببة منذ سبعين عاما، هو نهاية عصر مليء بالأحداث والذكريات التي ارتبطت بشخصية الملكة الراحلة، لكن اعتلاء الأمير تشارلز، الذي هو الآخر، أمضى أطول فترة في منصب ولي العهد، يبشر بعصر جديد طابعه التطور والتجديد، لما عرف عنه من إقدام على فعل ما يراه مناسبا بغض النظر عن التقاليد السائدة.

هل سيملأ الملك تشارلز الثالث الفراغ الذي تركته أمه؟ لا، لن يستطيع، لكنه سيخلق حيزا خاصا به وسوف يعمل على ترسيخ النظام الملكي بطريقته الخاصة، مهما تطلب ذلك من جهود وافتراق عن التقاليد. لكن الشيء المؤكد أن الملك تشارلز لن يتدخل في الشؤون السياسية لأن مثل هذا التدخل سيكون مرفوضاً وسيخلق له مشاكل هو في غنى عنها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.