محمد عمارة تقي الدين يكتب | نحو إعلام ديني أكثر تراحمية (1-4)

0

“الدين جزء لايتجزأ من مشروع الإنسان”، هكذا يؤكد مُفكرنا الراحل مالك بن نبى على أهمية البعد الإنساني في الدين، فهو ما يعطيه وهجًا وحضورًا، وها نحن اليوم نشهد ظاهرة تنامي وتصاعد المد الديني حيث الرغبة العارمة في معانقة المقدس في السنوات الأخيرة في كثير من بقاع العالم، وهي ظاهرة لافتة وتستحق مزيدًا من التمعن في أسبابها، إذ استطاعت تقويض كل توقعات علماء الاجتماع بشأن الأديان، فقد تنبأ كثيرون بخفوت تأثير الدين وتراجعه في إدارة الاجتماع البشري وكمنظم ضميري لشؤون البشر, بل تحدثوا عن حتمية اندثاره نهائيًا كنتيجة منطقية لولوج الإنسان عصر العلم والتحديث اللانهائي.

وها هو الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت والذي كان قد أعلن أن البشرية مرت بثلاث مراحل: مرحلة السحر أو الخرافة، مرحلة الدين، ثم مرحلة الوضعية العقلية والعلم وهي التي عليها البشرية الآن، وأن مرحلة الدين وفقًا لطرحه قد انقضت وانتهت، ومن ثم تنبأ بانسحاب الدين من الحياة ليصبح من الحفريات التاريخية, مؤكدًا أن العلم بما قدمه من اكتشافات حل الكثير من المسائل الغيبية الميتافيزيقية التي كانت المسرح الذي يتحرك فيه الدين وحده باعتبارها فوق سلطة العقل وخارج نطاق قدرته، غير أن ما حدث هو عودة المد الديني بقوة ليغزو رقعة الحياة العامة، بل رشحه كثير من المفكرين لأن يلعب دوراّ مركزياّ في إرساء قيم التراحم الإنساني في المستقبل، بما يمتلكه من مخزون أخلاقي.

يرى الفيلسوف الألماني ألبرت إشفايتزرAlbert Schweitzer في مؤلَّفه ترويض الأمم The Taming of the Nations أن المستقبل سيكون من نصيب الأديان ذات الصبغة الأخلاقية وإنّ الأديان التي سيكُتب لها التمدد والانتشار ستكون تلك التي تُظهر نزوعًا وانحيازًا حقيقيًا لحقوق الإنسان وتأكيد حريته، فالطريق أمامها مُعبَّد بقوة، في حين أن كل دين ينزع نزوعًا مضادّا للقيم الأخلاقية سيكون مرشحًا للانكفاء والخفوت ومن ثم والتلاشي.

مقابل هذه الرؤية المثالية التي نريد من الدين أن يمارسها مستقبلًا، في المقابل نصطدم بالإعلام الديني الذي بات حاضرًا بقوة في الفضاء الإعلامي، والذي يُفترض أنه رسول الأديان للعالم وقد انزلق لهوة سحيقة، إذ يعمد سواء عن قصد أو من دونه إلى تشويه الدين عبر كثير من الممارسات الخاطئة، لعل أهمها التوظيف الأيديولوجى للدين إذ أصبح لسان حال جماعات العنف والتطرف، كما أن المنصات الإعلامية الدينية أغلبها يُحسب على التيار الديني التقليدي الذي ينحاز لأيديولوجيته فقط في حين يقوم بتشويه الآخرين، كذلك لجوءه للخطاب التخويفي مثل الحديث المتواصل عن عذاب القبر وهو الخطاب الذي لم يعد مجديًا وحده في عصر تغيرت ملامحه.

كما تصاعدت ظاهرة المفتون الجدد حيث تقديم الفتاوى الدينية المتسرعة على الهواء دون دراسة معمقة، ومن ثم صدرت فتاوى تعِجُّ بالعوار والمتناقضات، كذلك ضعف المحتوى الإعلامي وتكراره في ظل غياب كوادر إعلامية لديها القدرة على إدارة المشهد عبر وضع استراتيجية إعلامية شاملة لهذا الإعلام.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.