جلبير الأشقر يكتب | السلاح بيد الجاهل يجرح

0

«السلاح بيد الجاهل يجرح» حكمة قديمة بالغة الصواب. فهي تشير إلى الفرق النوعي بين السلاح الذي تضبطه القوانين ويتحكم به العقل والسلاح السائب في عالم الغاب الذي يقتنيه الجاهل (لاحظوا أن «الجاهل» إحدى تسميات الأسد في «المعجم الوسيط») ويفتك به. وإذا كان صواب الحكمة جلياً في ما يتعلق بالسلاح العادي، فهي تتخذ معنىً فائقاً في ما يخصّ أفتك أنواع السلاح، ألا وهو السلاح النووي.
هذا ومن الصحيح أن القنبلة الذرّية وما شابهها سلاح ذو حدّين بالمعنى المجازي: فهو، من جهة، سلاح من شأنه أن يقتل كمّاً هائلاً من البشر بضربة واحدة، من جرّاء الضربة ذاتها وكذلك عواقبها من الإشعاعات، ويُحدث دماراً مذهلاً بحيث أن حرباً يتبادل فيها الطرفان القصف النووي من شأنها أن تسحق بلداناً بكاملها، بل قارة بأسرها، أو حتى معظم الكرة الأرضية إن كانت لدى الطرفين ترسانة كالتي تمتلكها القوتان النوويتان العظميان.
ومن الجهة الأخرى، فمن شأن خطورة السلاح النووي ذاتها أن تردع القوى التي تمتلكه عن أن تتواجه في حرب مباشرة، إذ تدرك أن ذلك سوف يؤدّي إلى هلاكها وليس هلاك الخصم وحده. وهذا ما لخّصته ببراعة العبارة القائلة باللغة الإنكليزية Mutual Assured Destruction (التدمير المتبادل المؤكد) التي تُختزل بالأحرف الأولى فتصبح MAD، أي مجنون.
لكن ماذا لو كان الذي يتحكّم بالسلاح النووي مجنوناً حقاً؟ هنا تكمن خطورة السلاح النووي العظمى والتي، منذ أن دخل هذا السلاح حيّز الفعل في أواخر الحرب العالمية الثانية، حذّر منها العقلاء وأنصار السلام داعين إلى حظر دولي للسلاح النووي. وإذا صحّ أن السلاح النووي عمل كسلاح «ردع» خلال الحقبة التاريخية التي تواجهت بها الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، وهو ما جعلها مرحلة «حرب باردة» بين العملاقين لم يدخلا خلالها في حرب مباشرة مركزية بينهما، بل تحاربا على أطراف امبراطوريتيهما من خلال الوكلاء، يبقى أنهما فاقا حدود التعقّل من خلال دخولهما في سباق تسلّح جعل كل منهما يراكم لديه ما يزيد كثيراً عمّا يكفي لتدمير البشرية عن بكرة أبيها.
بيد أن الطرفين فتنا منذ سبعينيات القرن الماضي أنه لزم وضع حدّ لسباق التسلّح النووي، فبدآ يتفاوضان على الحدّ من التسلح النووي أولاً، ومن ثم على تقليص ترسانتيهما النوويتين بالتوازي.
وقد تسارع هذا التعقّل في عهد ميخائيل غورباتشوف السوفييتي، ثم انتكس في عهد جورج دبليو بوش الأمريكي، وانتعش من جديد في بداية عهد باراك أوباما (الذي نال جائزة نوبِل للسلام لما فعله في هذا الحقل بالذات). والحال أن الولايات المتحدة قد خفّضت ترسانتها النووية إلى ما هو دون الترسانة الروسية بحيث باتت روسيا في عهد بوتين تحوز على أكبر ترسانة في العالم بفارق كبير: 6,257 رأساً نووياً مقابل 5,550 لدى الولايات المتحدة.
والحقيقة أن حكم بوتين أراد التعويض عن تفوّق أمريكا على روسيا في الأسلحة التقليدية بتفوّق في الترسانة النووية، وهو موقف غير عقلاني إذ إن أياً من الترسانتين الروسية والأمريكية كافٍ لتدمير كوكبنا بأكمله كما أن لاقتناء ترسانة عظيمة توابع مالية ليس الاقتصاد الروسي المحدود في حاجة إليها. بيد أن الأمر الأخطر في التطورات التي شهدها العالم في السنوات الأخيرة، وهو الاحتمال الذي طالما حذّر منه العقلاء وأنصار السلام، فهو أن السلاح النووي بات يتحكّم به أناس يحوزون على سلطة مطلقة في حين ثمة شكّ في صواب عقلهم.

فإذا كانت القيادة الجماعية السوفييتية والمؤسسات الأمريكية كفيلتين بعدم الانزلاق إلى استخدام السلاح النووي خلال الحرب الباردة (أقرب ما شهده العالم إلى مثل ذلك الاستخدام أزمة الصواريخ في كوبا التي تبيّن لاحقاً أنها كانت مناورة سوفييتية لجعل الطرف الأمريكي ينزع سلاحه النووي من تركيا) فإننا بدأنا نواجه حالات مقلِقة جداً في الآونة الأخيرة.
أول حالة شهدها العالم حالة الحكم القراقوشي القائم في كوريا الشمالية حيث يتمتّع رجال السلالة الحاكمة بسلطة مطلقة تضاهي أقصى حالات الحكم المطلق التي عرفها التاريخ. ومن حق سكان كوريا الجنوبية أن يقلقوا أقصى قلق من جارهم الشمالي، لذا تراهم يتمسّكون بما يسمّى «المظلّة النووية» الأمريكية أملاً بأن الحاكم القراقوشي الشمالي يدرك أن استخدامه للسلاح النووي من شأنه القضاء على بلاده وبالتالي عليه هو بالذات، حيث إن قوة أمريكا النووية تفوق ما لديه بما لا يتحمّل المقارنة. وقد بلغ هذا الأمر اوجّه عندما وصل إلى سدة الرئاسة الأمريكية رجل غير متوازن عقلياً هو دونالد ترامب، هدّد كوريا الشمالية من فوق منصّة الجمعية العامة للأمم المتحدة بكلام كاد يكون مضحكاً لولا خطورته. بيد أن الرئيس الأمريكي ليس صاحب سلطة مطلقة ولا يستطيع بالتالي أن يفعل ما يشاء، فضلاً عن أن ترامب انتقل من ذلك التهديد إلى شبه صداقة مع حاكم كوريا الشمالية.
أما الحالة الثانية والأخطر بما لا يُقاس، فهي ما تطوّر مع الزمن في روسيا ما بعد السوفييتية حيث تحوّل حكم فلاديمير بوتين تدريجياً إلى حكم مطلق، عاد بروسيا إلى نمط الحكم القيصري (ذلك أن ستالين ذاته كان محكوماً بمحيطه ولو كان يُرعب الجميع، كما بيّنت الدراسات التاريخية) مع فارق عظيم هو أن روسيا القيصرية لم يكن لديها سلاح نووي، وكم بالأحرى أكبر ترسانة نووية في العالم. ومع تمركز السلطة المطلقة بيد بوتين أخذت ملامح فقدان التوازن الذهني تتكاثر لديه، لاسيما في المشاهد التي بيّنت خشيته الفائقة من وباء كوفيد ومخاطبته لمأموريه بإخراج مسرحي مرَضي.
وها هو قد خاض بمغامرة كبرى في محاولة احتلال جارة بلاده، أوكرانيا، مصاباً بجنون العظمة كما أفصحت عنه تصريحاته عن إعادة بناء روسيا العظمى القيصرية ولومه للينين والبلاشفة لمنحهم حق تقرير المصير لشعوب الإمبراطورية الروسية وتشكيلهم جمهوريات الاتحاد السوفييتي على هذا الأساس. وإن بدت حسابات بوتين رعناء منذ البداية، كانت لا تزال ترتكز على عقلانية يتحكّم بها جنون العظمة. أما وقد أصيب مشروعه بفشل أكيد، ها هو يهرب إلى الأمام بدل الاتّعاظ والبحث عن مخرج سلمي. وقد قام بخطوتين بالغتي الخطورة، أولهما إعلان التعبئة (للمرة الأولى في دولة عظمى منذ الحرب العالمية الثانية!) وثانيهما تنظيم استفتاء صوري في المناطق الأوكرانية التي يحتلها جيشه تمهيداً لإعلان ضمّها إلى روسيا بما يجعلها أرضاً روسية ويجعل روسيا دولة تخوض حرب دفاع عن «ترابها».
وقد ترافق الأمران بتصعيد بوتين للهجة تهديده باستخدام السلاح النووي بشكل أثار قلقاً عظيماً. هذا وخلافاً لحاكم كوريا الشمالية، لدى بوتين ترسانة نووية تكفي لتدمير العالم بأسره، بما يجعل مصير العالم رهناً بتوازنه العقلي مع الخشية بأن تتملّكه درجة من الإحباط إزاء إخفاقه تتفاعل مع جنون العظمة لديه بحيث تجرّه إلى الانتحار على طريقة «عليّ وعلى أعدائي». وهذا ما لا يقلق الدول الغربية وحسب، بل حتى الصين التي أخذت تعبّر علانية عن قلقها وتكرّر التصريحات الداعية إلى السلام وإلى احترام سيادة كافة الدول وسلامة أراضيها بما يشكّل نقداً للغزو الروسي لأوكرانيا ولو كان غير مباشر.
خلاصة الحديث أن مصير العالم بات يتوقف على مصير رجل واحد بما لم يسبق له مثيل في التاريخ البشري، وأن العقلاء الذين دعوا إلى حظر السلاح النووي كانوا على أتمّ حق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.