أحمد القناوي يكتب | ‏إلغاء الهبوط.. ورقة التوت الأخيرة

0

في ختام نسخة باهتة للدوري المصري الممتاز لكرة القدم، البطولة الأكبر والأكثر جماهيرية على مستوى مصر والمنطقة العربية، والتي أثرت فاعلياتها ومبارياتها في تشكيل وجدان أجيال متعاقبة من ملايين المشجعين ومحبي رياضة كرة القدم في مصر والعالم العربي، لا يمكن لأي متابع منصف لكرة القدم المصرية أن يغض الطرف عن الخطر الحقيقي الذي يهدد هوية الدوري الممتاز، والمتمثل في تمدد سطوة أندية الشركات والمؤسسات على حساب الأندية الجماهيرية، تلك التي صنعت تاريخ الكرة في مصر وشكلت وجدان الملايين لعقود طويلة.

اليوم، ونحن نتابع مسابقة الدوري الممتاز، نجد أن الأندية الشعبية – باستثناء الأهلي – تتساقط واحدة تلو الأخرى. نادٍ بحجم الإسماعيلي كان قاب قوسين أو أدنى من الهبوط، وكذلك غزل المحلة. ظاهريًا، يبدو أن هناك “جهودًا” بُذلت لإنقاذهما. وإذا مددنا الخط على استقامته، فلن نجد بعد سنوات قليلة فريقًا جماهيريًا واحدًا – باستثناء الأهلي – ضمن أندية الدوري الممتاز، وهو ما سيدفعنا لعدة أسئلة وجودية يجب أن نجد إجابات مرضية لها، فهل سيصبح الدوري المصري “دوري شركات ومؤسسات” وفقا لمفهوم مسابقات الستينات؟ هل ننتظر دوريًا تُديره الميزانيات والدفاتر الإدارية، وميزانيات الدعاية لرجال الأعمال؟ بينما تُطرد منه الروح الجماهيرية، والصخب الشعبي، والهوية التاريخية التي ميّزت الكرة المصرية؟ وهل هناك دوري واحد في العالم بلا جماهير؟! هل سيصبح الدوري المصري على الوضع الصامت “سايلنت” بعد عدة أعوام، هل سيصبح هدير المدرجات في المباريات مجرد ذكريات من الماضي، أم سيتم الاستعاضة عنها بمؤثرات صوتية أثناء البث الفضائى؟!

هل من المنطقي أن يُترك تمويل الرياضة بعيدًا عن الأندية الجماهيرية، في حين تستأثر به أندية الشركات والهيئات؟ أين العدالة؟ وهل هذا لصالح الدولة المصرية؟ وأين الرؤية بعيدة المدى التي تراعي أن الكرة ليست استثمارًا ماليًا فقط، بل ظاهرة اجتماعية وتعبيرا عن الانتماء والهوية؟ وأين ذلك من تأثير القوة الناعمة للدولة المصرية، والتي تلعب فيها شعبية المنافسات الرياضية المصرية دورا ملحوظا في المنطقة؟

أندية مثل النادي المصري، الاتحاد السكندري، الإسماعيلي، غزل المحلة، الزمالك، الترسانة، الأوليمبي، بلدية المحلة، طنطا، المنصورة، المنيا، أسوان، بلدية أسيوط، دمياط منتخب السويس، المريخ البورسعيدي… وغيرها من الأندية التي كانت نبض الشارع المصري، ومصدر فخر للمدن الآتية منها، أصبحت الآن خارج الحسابات أو على هامش المشهد، تُصارع للبقاء في الدرجات الأدنى، أو تكافح الهبوط في كل موسم.

إن الرهان على أندية الاستثمار الرياضي – في ظل غياب جمهور حقيقي، واعتماد مفرط على التمويل غير المستدام – هو قنبلة موقوتة. الكرة بدون جمهور تفقد معناها، والدوري بدون أندية جماهيرية يفقد قيمته وتسويقه وشرعيته، واللهث وراء الاستثمار في اللاعبين وبيعهم وعقود السمسرة والبث الفضائي والرعاية وغيرها لجنى الأرباح قصيرة الأمد لن تأتي أكلها دون حاضنة جماهيرية يستثمر في تنميتها وتوسعها باستمرار، ومع الوقت سيفقد الزخم ويتراجع تصنيف الدوري المصري تدريجيا، وهو ما سيؤثر بالسلب قطعا على عقود البث والرعاية، وهكذا في دائرة مفرغة لن تتوقف إلا بانهيار حاد في المنظومة بأكملها، وبالتالي تحقيق خسائر مؤكدة على المديين المتوسط والبعيد.

إنني أدعو كل الأطراف المعنية بكرة القدم المصرية إلى تحكيم صوت العقل والمصلحة المستدامة والصالح العام لهذة اللعبة العريقة وللبطولة الأعرق والأشهر في المنطقة، ووضع الجماهيرية والعدالة وتوزيع المكاسب المتوازنة ضمن أهم أولوياتهم حتي تتمكن المسابقة من المنافسة في ظل منافسة محمومة من مسابقات أخري في المنطقة تمتلك إمكانيات مالية وجماهيرية ولوجستيات مهولة ويقف خلفها صناع قرار يضعون أهدافا وطنية عليا يسعون لتحقيقها من خلال هذم الرياضة الشعبية التي يصفها الكثيرون ب “أفيون الشعوب”.

إن كان هناك عقل رشيد يدير كرة القدم في مصر، فعليه أن يراجع حساباته قبل أن تتحول المسابقة إلى نسخة بلا هوية. الحل ليس بإقصاء الشركات، بل بدمجها مع الأندية الجماهيرية، وتمكين هذه الأندية من أدوات التمويل الحديث، والاستثمار الرياضي، الذي يتيحه القانون الجديد. وقصر المنافسة على الأندية التي تمتلك جماهيرا.

وإلا فما الذي يمنع الأندية الجماهيرية العريقة من الانسحاب من نظام المسابقات الحالي وتنظيم مسابقة خاصة بهم يضمنون من خلالها مشاركات جماهيرية واسعة، وسيجدون وقتها عروضا إعلامية وإعلانية متزايدة بالتأكيد، على حساب عقود المسابقات الحالية، لأنهم يملكون وبلا شك الشىء الوحيد الذي يبحث عنه المعلنون وهو .. الجماهير.
آن الأوان لتصحيح المسار، قبل أن نصحو على دوري بلا جماهير، وبطولة بلا معنى.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.