إسماعيل شاكر الرفاعي يكتب | السياسة حب والحب سياسة

0

السياسة حب أولاً ، والسياسة حب أخيراً ، ولا يمكن لها ان تكون فن العمل بالممكن ( كما هو تعريفها في علم السياسة ) ان لم تكن في جوهرها حباً لا حدود له لمن تدير شؤونهم . فهي تهدف الى ان يكرس السياسي نشاطه حول محبوبه الذي هو الشعب : يحميه من كل أنواع الخوف ، ويتفانى في تلبية طلباته ، وإشباع حاجاته الأساسية ، وصولاً الى تحقيق سعادته في الحياة.
لا يختلف عطاء الموهبة السياسية عن عطاء الموهبة الشعرية والفنية والمعمارية ، في تجسيدها لأثر خالد لا تمحي دلالته بسهولة ، يخاطب الملايين ويشيع الرضا في نفوسهم على اختلاف جنسياتهم وألوانهم وخلفياتهم الثقافية . فحين يشاهد الناس ، في رحلاتهم السياحية ، اهرامات الجيزة أو بعض التماثيل اليونانية أو يقفون امام لوحة للواسطي او بيكاسو ، او حين يقرأون نصاً أدبياً رفيعاً حديثاً كمالك الحزين أو لعبة الكريات الزجاجية ، أو قديماً كمعلقة طرفة بن العبد او الألياذة او ملحمة جلجامش : يشعرون برعشة جمالية تهزهم من الداخل ، وهم يتأملون تفرد الأثر بصياغة لا تشبه غيرها ولم تكن على مثال سابق.
لا تختلف موهبة السياسي عن موهبة الشاعر والفنان في عطائها الذي يستقطب عقول ومشاعر الاغلبية : اذ لا يقتصر عطاؤها – كما هو الحال مع السياسي الأمعة الذي يفتقر الى الموهبة – على الدائرة الضيقة المحيطة به ، فبناء جسر او ادخال تكنولوجيا الاتصالات والمواصلات ، او تحديث الجهاز المصرفي والإداري الكترونياً سيكون مردوده ذا فائدة ونفع شامل للملايين ، ولا يكون استعماله قاصراً على عائلة السياسي او على أصدقائه وأشياعه من الذين يشاطرونه رؤيته السياسية . فالموهوب سياسياً يكون عطاؤه نافعاً لعموم الناس ، لأن حب الناس هو الدافع والمحرك له على الاستمرار باتخاذ القرارات التي تعزز من نزوع الدولة صوب تضييق الهوة بين الخواص والعوام ، وجعل المساواة السياسية طريقاً الى المساواة الاجتماعية.
تفصح الموهبة السياسية عن نفسها بوقت مبكر ، وهي في هذا لا تختلف عن مواهب الشعراء والموسيقيين والمطربين ، والموهوبين في العلوم الطبيعية والدقيقة كالفيزياء والرياضيات والكيمياء والفضاء والإلكترون : الذين يفصحون عن هذه الاستعدادات منذ عمر الصبا وربما الطفولة . ثم يساعد الخارج على انضاج هذه المواهب وتفتحها ، حين تعكف انظمته التعليمية والإنتاجية وثقافته الجمالية على صقلها . ولكن الخارج لا يعوض عديم الموهبة عن نقص استعداده الداخلي . يساعد الخارج الموهوب سياسياً على ادارة حوار ناجح معه ، ويعمق من قدرته على المناورة وإخفاء الغاية والقصد . لكن هذه المهارات اضافة الى مهارات اخرى ، ادارية وفنية وعسكرية : يساعد التعليم المركزي للدولة على تعلم اكتسابها ، ولكن التعليم لا يعلم الطريقة التي تساعدنا على ان نصبح موهوبين : لقد سقط عباس بن فرناس من شاهق ، وسقط قبله ايكاروس الابن في الأسطورة اليونانية ، لأن الطيران استعداد خاص بالطير لا بالانسان ، واكثر نقاد الأدب : فشلوا في ان يكونوا مبدعين ، فلجأوا الى دراسة قوانين الحكي والسرد ، واستنباط شعرية النصوص التي لم تعد تتقيد بالوزن والقافية ، فأصبحوا معلمي صنعة أو حرفة – كالسفسطائيين في التراث اليوناني – لا من مبدعيها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.