داود السلمان يكتب | كتّاب شكلوا علامة فارقة (2-5)

0 340

3: دوستويفسكي
“كلنا خرجنا من معطف غوغول”. هذه العبارة تُنسب إلى دوستويفسكي، وأحيانًا تُنسب إلى غيره من الروائيين والكتّاب؛ وهنا، نحن نستعير هذه الجملة ونقول كُلهم خرجوا من معطف دوستويفسكي، وأقصد بـ “كلهم” أي كُل أو جُل، الأدباء والروائيين، الذين جاؤوا بعده، بل وحتى بعض الفلاسفة أخذوا من هذا الأديب الروسي دوستويفسكي، وعلى رأسهم صاحب نظرية التحليل النفسي، فرويد، كما ذكرنا ذلك في المقال السابق.
دوستويفسكي هو ليس روائي فحسب، كما هو معلوم، بل هو فيلسوف وأديب وعالم اجتماع، ومحلل نفسي أيضًا، فالذي يقرأ رواياته لا يشك لمحة بصر بما ندعيه.
لم يكُن من باب الصدفة حين تعرفت إلى هذا الكاتب الكبير، وذلك إبان بدايات الثمانينات من القرن المنصرم، أي أيام الشباب، يوم كنّا متعطشون للكتاب، وقرأت حينها جُل أعماله، قرأتها لأجل المتعة الفكرية فحسب، ثم عدت قراءة كتبه تارة أخرى، قبل عامين تقريبًا، ولحين كتابة هذه السطور، وأنا مستمر بالقراءة، لكن، هذه المرّة، قراءة تأملية بهدف التزود من هذه الكنوز المعرفية، كما لا يفوتني بأنني كتبت قبل هذا المقال بحدود عشر مقالات عنه؛ وأعترف بأنه ملهمي ومنه تعلمت الكثير، وما زلت اتعلم وأعدّه أستاذي الذي تعلمت على يديه من خلال ما ترك لنا من فكر ثرّ، وأشعر أنّه يخاطبني ويشير اليّ في الكثير من العبارات والحوارات التي يصيغها على لسان أبطاله، لأنّها تخرج من وجدان حيّ وجنان فذّ.
غالبًا ما نرى الحوارات التّي يكتبها دوستويفسكي، تمتاز بالحنكة والابداع، والطابع الفلسفي والنفسي، والاجتماعي أيضًا. فإذا كان الحوار فلسفيًا تجد هذا الرجل فيلسوفًا له نظرياته وفلسفته الخاصة به، وطابعها موضوع الإنسان؛ وإذا كان الحديث حول علم النفس تجد مصطلحات فلسفية يصيغها هذا الأديب الهُمام، تستشف منه على إنّه محللًا نفسيًا، يغوص في اعماق النفس البشرية، ويُظهر ما في دواخلها من ترسبات؛ أما علم الاجتماع فستجده حاضرًا من خلال السرد الحكائي للرواية شاخصًا أمامك، كأنّه عالم اجتماعي متمرّس، بل وكذلك مصلح يحاول أن يعطي رسالة للمجتمع، بأنّ الاصلاح بين المجتمعات، بعضها بعضًا، واجبًا إنسانيًا وأخلاقيًا.
إنّ ما يميّز دوستويفسكي عمّن سواه من الأدباء والكتاب، أنّه هو نفسه لم يتغير، كأديب وكإنسان، وهذه الصفة قد يتصف بها وحده، إلّا ما ندر؛ فهو حينما سُجل في سجن سيبيريا بتهمة الانتماء إلى حزب ليبرالي معارض للسلطة، حينذاك، فظل على وقاره واتزانه، النفسي والأخلاقي، وهو نفسه الذي وصف ذلك في روايته التي كتبها بعد خروجه من ذلك السجن، أعني رواية “ذكريات من منازل الأموات”، وفي هذه الرواية يظهر، دوستويفسكي، كمصلح وكعالم اجتماع، ومحللا نفسيًا في ذات الوقت؛ فكمصلح تحدث عن الحيف الذي يلاقيه السجناء في تلك السجون، عمومًا، وفي سجن سيبيريا على وجه الخصوص، وفيه يصف ظلم الإنسان لأخيه الإنسان؛ وكعالم نفسي يحلل نفسية السجين داخل تلك السجون الرهيبة، كيف أنّ الكثير منهم ينهار فينقلب على واقعه، ومنهم يبكي بكاء المرأة حين تتعرض إلى موقف يتصف بالخطورة والاعتداء السافر، فيندب حظه، ومنهم من يبقى صلبًا كالفولاذ فلا يهتز وجدانه لأصعب، أو لأسهل حدث.

4- ألبيركامو
ذكرنا في المقال السابق، المخصص عن كافكا، بأنّ ثمّة عدد من الكتاب تأثروا بكافكا، وذكرنا البيركامو كأحدهم.
ففي “الطاعون” وكذلك في “الغريب” وفي “السقوط”، رسم لنا المؤلف صورة واضحة حول ضياع الإنسان، واهدار كرامته، ومسخ شخصيته، وسط عالم متشنج، لا يدري أين يسير وإلى أي هدف يرغب في الوصول إليه، وجميع الأهداف غير واضحة المعالم، وثمّة ضبابية تلقي بظلالها على المشهد العام، لهذه الحياة المضطربة، وهذه الفوضى العارمة من الأفكار والتوجهات والفلسفات، بين قيّم ثابتة وأخرى تتماوج، كتماوج مياه البحر المتلاطم، لا تستقر على قرار يكون فيه الحلّ النهائي.
وتأثر كامو واضحًا في أفكار كافكا، وتكاد أن تكون تلك الضبابية التي دعا اليها صاحب مؤلف رواية “القضية، أو المحاكمة”. فبطلها يُحكم عليه بتهمة لا يدري هو ما هي التهمة هذه، كي يدافع عن نفسه، أو يتصدى لها أضعف الأيمان.
وفي “الغريب” بطل الرواية، يقتل شخصًا على قضية تافهة، ليس هو طرفًا مباشرًا فيها، إذ يطعنه بسكين، كانت معه بغية تقطيع الفواكه، وفعلا طعن فيها الرجل فأرداه قتيلا بالحال، ولم يحاول أن يهرب، بل ظل شاخصًا كالتمثال، غير مبالٍ كأنه لم يفعل شيئا، وحين مثلَّ بين يديّ القاضي أعترف له بجريمته، بكل برود، ألّا أنّه لم يعر للقضية أي اهتمام يُذكر، وكأنّ الأمر لا يعنيه بالمرّة!.
ولما انتهى من الاستجواب توجه إلى الباب لينوي الخروج بهذه السهولة.
فاللامبالاة هذه، أراد من ورائها المؤلف القول، بأنّ الذي يجري على البشر في هذه الحياة، ما هي إلّا تفاهات فُرضت عليه، تفاهات لا مبرر لها، مع ذلك فهم يسيرون على جادتها، كطرق مرسومة سلفا لا يمكن للإنسان أن يتجاوزها، فهي القدر المحتوم، وهو في هذا المعترك يسيرون كالأعمى.
واضح في هذه الحالة، إّن حياتنا في الوجود، كما يريد القول ما هي إلّا عبث ليس ورائها هدفًا حقيقيًا، وهذا الرؤية “الكاموية” (نسبة إلى كامو) هي فلسفة قديمة، طرُحت من قبل فلاسفة اليونان، وسار على خطاها كثير من أعلام الفلاسفة، إلى وقتنا هذا.
العبثية التي دعا إليها ترى أن الحياة لا مبرر لها، كفرض فرضته الطبيعة، ونحن نعيشها بلا طائل، فهي نمطية وتسير على وتيرة واحدة، وحتى مجيئنا إلى الوجود هو الآخر ليس معنى، بحسب المدلولات التي يتصورها ثلة كبيرة من المفكرين، إذ كيف جئنا لنطرق عالم الوجود هذا؟، وهل ثمّة أيدٍ خفية غيبية تدخلت في قضية الخلق؟. ثم لماذا تتحكم فينا غريزة الطمع والجشع والانانية؟، من أودعها فينا؟.
الأسئلة هذه وغيرها تطرحها الفلسفة العبثية، وغيرها من الفلسفات الأخرى؛ لكن كامو طرحها بصيغ أدبية، هي أقرب للتقبّل من قبل القارئ البسيط، لأنها صيغت بحبكة سردية سلسة، بعيدة عن المصطلحات الفلسفية الرنانة.
ولا ننسى أنّه أخذ عن صديقه سارتر، بعض الشيء ثم قد حدث بينهما خصام بسبب اختلافًا في الرؤى، وحينما جاء خبر وفاته لسارتر حزن عليه هذا الأخير، ونعاه في مقال.
ثمة دافع نفسي، وكذلك عبق الاسلوب الأخاذ الذي أخذ يداعب احاسيسنا بمتعة القراءة والتواصل مع الكتاب؛ اسلوبًا كان ينفرد عمّا قرأناه في تلك الفترة الشبابية، يوم كنّا منبهرين بعالم القراءة، وثمة، أيضًا، اغراء يأخذ بأيدينا (نحن شباب ذلك العهد) للتطلع واخذ المعرفة، والغوص في ينابيع تلك المياه الجارفة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.