رامي جلال يكتب | “ألو يا أمم”

0 295

قبل عشرات القرون من تأكيد شادية وفاتن حمامة وجودهما فى أغنية «ألو ألو إحنا هنا» فى فيلم «موعد مع الحياة» كان «سقراط» يجلس فى إحدى حلقات الدرس حين لاحظ أن أحد تلاميذه لا يتكلم أو يتفاعل فقال له جملته الشهيرة «تكلم حتى أراك»، وهى الجملة التى استند عليها الفرنسى «رينيه ديكارت»، أبوالفلسفة الحديثة، فى صياغة فلسفته التى لخصها فى «أنا أشك إذاً أنا أفكر إذاً أنا موجود»، عملية التفكير عنده هى ما يجعل الإنسان موجوداً، وبالتالى فالشخص الذى لا يفكر هو كائن افتراضى غير موجود (تذكر أصحاب الأصابع الأربعة وشعوب العالم الثالث بشكل عام). وهى عكس الفلسفة التى طرحها بلدياته الفرنسى الآخر «جان بول سارتر» صاحب الفكر الوجودى الذى يقول إن «الوجود سابق عن الماهية»، بمعنى أن الإنسان موجود فى كل الأحوال ولكن هو، باختياراته وتحمله مسئوليتها، من يحدد طبيعته. وسواء كنا موجودين لنفكر أو كنا نفكر لنوجد، ففى كل الأحوال من الممكن أن نكون ملء السمع والأبصار ويأتى أحفادنا ليتساءلوا هل عشنا على هذا الكوكب حقاً أم لا؟ وقد حدث هذا بالفعل.. فـ«الرجال صناديق مغلقة مفاتيحها الكلام»، كما قال على بن أبى طالب، والحديث علم والكلام فن.
هوميروس، الشاعر الملحمى الأغريقى الشهير، من المرجح أنه عاش فى القرن التاسع قبل الميلاد وكتب ملحمتى الإلياذة والأوديسة، ومع ذلك فوجود الرجل نفسه من الأمور المشكوك فيها، قيل إنه لم يوجد من الأساس، وإنه كتب نصف أعماله والنصف الثانى كتبته ابنة له. ونحو ثلاثة آلاف عام بيننا وبين الرجل قد تفسر هذا الارتباك. ولكن ماذا عن الكاتب الإنجليزى الأشهر «شكسبير» الذى عاش فى القرن السادس عشر، وظهرت نظريات عدة تتحدث عن كونه شخصية وهمية لم توجد أبداً؟ ولعل ما غذى هذه الأقاويل أن نسل الرجل قد توقف سريعاً؛ فقد مات ابنه صغيراً، وأنجبت ابنته الكبرى بنتاً تزوجت بدورها مرتين ولم تنجب. وأنجبت ابنته الصغرى ثلاثة أبناء ماتوا جميعهم دون زواج. وربما يكون حل لغز «ويليام شكسبير» عند كاتب معاصر له هو «كريستوفر مارلو» الذى قُتل فى شجار فى إحدى الحانات وهو دون الثلاثين، وذلك عام 1593، وهو نفس العام الذى سطع فيه نجم «ويليام شكسبير»، الذى كان مختفياً قبلها لسبع سنوات فيما يُعرف بـ«سنوات شكسبير الضائعة»، وتشير بعض الدراسات إلى أن «كريستوفر مارلو» هو نفسه «ويليام شكسبير» وأنه افتعل حادثة موته الغامض للهروب من ملاحقيه، لأنه كان جاسوساً كاثوليكياً ضد الحركة البروتستانتية، وأنه عاد ليكتب باسمه الجديد. ويدعم هذا الطرح أن كلا الشخصين وُلد فى العام نفسه، كما أن أسلوبهما الأدبى متقارب للغاية ويظهر ذلك فى مسرحيتى «تاجر البندقية» و«يهودى مالط»، الأولى لشكسبير والثانية لمارلو.
ما يحدث لأفراد قد ينسحب على الدول ولكن بشكل أكثر صرامة، حيث إن وجود أى دولة ليس أمراً محسوماً لمجرد رؤيتنا لها على الخريطة؟
فهناك دول لا توجد إلا فى عقولنا (مثل المدينة الفاضلة). وهناك دول أخرى تُعلن عن وجودها بقوة (مثل أمريكا، والصين، وروسيا). وهناك نوع ثالث لا يفكر ولا يشارك فى النهضة الإنسانية، ويتمركز فى جيتوهات متأخرة عن العالم ببضعة قرون، وقد يمسه الفناء فى المدى المتوسط، سواء بالمعنى الإدارى (مثل عملية تفكك ليبيا)، أو بالمعنى المادى (بنجلاديش بالكامل مهددة بالغرق والاختفاء بسبب الاحتباس الحرارى). فمن أى نوع نحن، وهل نجرؤ أن نقول للعالم: «ألو يا أمم» أو «ألو ألو إحنا هنا».

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.