كريم الوائلي يكتب | إعداد المعلم بين تحديث المناهج وقصور التدريب

0

تتألف المنظومة التربوية ، شأنها شأن أي منظومة ، من عناصر تكوينية جوهرية تمثل ماهيتها وطبيعتها ، وتحتل هذه العناصر مواقع معينة ، وتتشكل بينها علاقات ، وان احداث أي تغيير في العناصر التكوينية ، أو في مواقعها ، أو في العلاقات بينها ، من شأنه ان يحدث تغيرا جوهريا في المنظومة نفسها ، ولذا يمكن النظر الى المنظومة ــــ في ضوء هذا الفهم ـــ على انها بنية يمكن تأملها في اطار تأثرها وتأثيرها بهذه العناصر المتلاحمة والمتظافرة فيما بينها .
تَراجع كثيرا التصور التقليدي الذي يجعل من المعلم طرفا فاعلا وحيدا في العملية التربوية ، ويجعل من التلميذ مجرد متلق سلبي ، لأنّ هذا التصور يهب المعلم سلطات مفرطة ، ويحرم الطالب من المساهمة في صنع الدرس ، كما تراجع تصور أخر يجعل من المعلم ميسرا مرة أو موجها عاما مرة أخرى ، لدرجة يقلل كثيرا من دور المعلم ، ويلقي عبئا اكبر على التلميذ ، وفي تصوري ان كلا الاتجاهين يربك العملية التربوية ، ولذلك سيظل المعلم قائدا في العمل التربوي ، لا على أساس الطريقة التقليدية التي تطلق يده في كل شيء ، ولا على أساس تخليه عن ابرز مهامه ، وانما يتحدد دوره على أساس وعي ان المناهج الدراسية تحولت الى علوم لها أسسها واصولها ، وان التدريب ــ الذي اصبح صناعة ـــ يتلاحم مع المناهج ليكسب المعلم مهارات متنوعة ، لدرجة يمكنني القول ان إعداد المعلم يشبه الى حد ما صناعة انسان يمتلك مواهب فردية ، يتم صقلها وتهذيبها وتطويرها وتعميقها في اطاري المناهج الدراسية والتدريب ، إضافة الى المكونات الأخرى التي تسهم في تطوير وتعضيد العملية التربوية .
ولا يخفى ان تطور المجتمعات والنهوض بها مقترن بنوعية التعليم ، ولذلك تتفاوت المجتمعات وتختلف في كيفية صنع المناهج الدراسية ، وفي كيفية استخدام آليات التدريب وتطويرها ، وتستفيد المجتمعات المتقدمة ـــ بخاصة ـــ من التراكم المعرفي الذي يمتد الى مئات السنين ، وتسعى لتوظيف المناهج الدراسية والتدريب معا من ” أجل اكتساب مهارات التعليم والتفكير ، وخلق النزعة النقدية في النظر للمشاكل وكيفية معالجتها منهجيًا ، وتنمية مهارات الإبداع معتمدة على قدرات المعلمين في التحليل والتفكيك والتركيب ” .
اما المجتمعات الأقل تقدما ــــ وبتعبير ادق المتخلفة ـــ فإنها لا تزال تحافظ على المناهج التقليدية ، وتنأى بنفسها عن التطورات المتسارعة التي تطرأ على التعليم وآلياته في العالم ، ولذلك بقي النظر الى المناهج والتدريب ثابتا وسكونيا ، أو بتعبير اخر ” أنه ليس في الإمكان أحسن مما كان ، ولذلك فإنها تنتج ما تم انتاجه ، وتعيده على ما هو عليه ، في أحسن الأحوال ، أو بأسوأ مما هو عليه ، تشويهًا واختزالًا ، في أغلب الأحوال” .
ولقد تركت الظروف القاسية التي مر بها العراق خلال العقود الأخيرة اثرا سلبيا على العملية التربوية بأسرها ، فضلا عن آثارها على المعلمين وتأهيلهم ، وإذا كانت الادارة التقليدية للمنظومة التربوية قادرة على إدارة الاعمال الروتينية في الظروف الاعتيادية ، فإنّ المنظومة التربوية بها حاجة الى ادارة خاصة للازمات والمخاطر ، في اثناء الحروب والحصار ، وكذلك في المناطق التي احتلتها داعش بخاصة ، من اجل مواجهة الظروف الصعبة وحساب الاحتمالات المختلفة واختيار الوسائل المناسبة لها . الامر الذي يقتضي اعادة تأهيل المعلمين والمدرسين والمرشدين التربويين والمشرفين التربويين ، وتدريبهم على قيادة ادارة الازمات والمخاطر . فضلا عن إعداد مناهج خاصة تعالج ما تركته الحروب والحصار واحتلال داعش من مؤثرات سلبية في وجدان المعلمين والتلاميذ وسلوكياتهم .
وحاولت وزارة التربية احداث تغيرات جوهرية في السنوات الأخيرة على بعض المناهج الدراسية ، كاللغة الإنكليزية والعلوم والرياضيات ، غير ان هذا يصطدم بعقبتين جوهريتين:
الأولى : ان مجرد التحديث لذاته لا يمثل قيمة كبيرة تدفع بالعملية التربوية الى الامام ما دامت العناصر التكوينية الأخرى متراجعة وهزيلة ، ذلك ان المنظومة التربوية مثل الكائن الحي تتفاعل عناصرها مع بعضها ، وتؤثر علاقات هذه العناصر ببعضها ، الامر الذي يجعل من المنظومة التربوية موجودا لا يتصف بالكمال والتناسق والانسجام ، فاذا احدثنا تطورا في المناهج ولم يوازه ويتفاعل معه تطور في التدريب فان هذا يجعل المنظومة التربوية مربكة وان مخرجاتها مشوهة وقاصرة .
الثانية : ان نسخ تجارب الاخرين أو محاولة محاكاتها وتقليد اطرها المنهجية العامة يمكن ان يضر بالعملية التربوية كثيرا ، وهذا ما حصل ، ذلك ان وزارة التربية حاولت التطوير في ضوء منهجية منظمة اليونسكو ، فقام مؤلفون عراقيون بدعم من منظمة اليونسكو وتوجيهها ومساندتها ، بهذه المهمة المنهجية الحديثة وتطبيقاتها ، دون الاخذ ـــ بتصوري المتواضع ـــــ بالفوارق النوعية بين المنهج الذي استخدم في بيئات تعليمية متقدمة ـ ، ودون النظر الى بنياتنا التعليمية المتردية من حيث الأبنية المدرسية البائسة واكتظاظ الصفوف الدراسية وآليات التعليم التقليدية ، والمستويات الضعيفة لإعداد المعلمين ، وبخاصة في المخرجات الأخيرة التي ترفدنا بها كليات التربية ، ومعاهد المعلمين .
ان منهجا متقدما يمكن ان يصلح لبيئة متقدمة ويمكن ان يحقق نجاحا كون البنية التحتية متكاملة ، والمستوى الثقافي للمجتمع متميزا ، فضلا عن متانة المنظومة التربوية وتماسكها، ولكنه سيخفق في مجتمعات تعاني من نسب عالية من الامية القرائية ، فضلا عن الامية الثقافية والتقنية ، وتعاني من بنيات تحتية متهالكةـ ـــ ابنية مدرسية ، ومختبرات ، ووسائل تعليمية ــــــ ومستوى متواضع من الإمكانات والمهارات التي يمتلكها اغلب المعلمين والمدرسين والمشرفين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.