حميد الكفائي يكتب | لماذا صار القمح رمزًا للحياة؟

0 284

صارت للقمحِ قدسيةٌ عند شعوبٍ عديدةٍ. منذ 17 ألف عام، والحبوب هي المصدر الأساسي للغذاء، إذ بقي الإنسان يتناولها بطرق شتى، خضرةً أم جافة، نيئةً أم مغليةً أم مُقَلّاة، لكن القمح، تميز بأنه الأفضل والألذ مذاقا والأكثر نفعا بين الحبوب، وبقي الخيارَ الأول في صناعة الخبز الذي صار رمزا للحياة. وقد صارت للقمحِ قدسيةٌ عند شعوبٍ عديدةٍ، منها شعوبُ العالمِ العربي، إذ يتعامل كثيرون مع الخبز على أنه مقدس، ولا يجوز رمي بقاياه مع الفضلات، وعندما يسقط رغيف الخبر على الأرض، تسمع دائما عبارات الاستغفار. وفي الحضارة الرومانية، اقترن القمح باسم الآلهة سيريس (Ceres) التي اعتُبِرت “حاميةَ الحبوب” واشتُق منها الاسم اللاتيني للحبوب (cereals).
على الرغم من أن هناك العديد من الحبوب والبقوليات والخضراوات، كالشعير والذرة والفول والحمص والعدس والبازلاء والبطاطا، تشترك مع القمح بالخصائص الغذائية نفسها، أي تحتوي على الألياف والكربوهيدرات والبروتينات النباتية، لكن القمح بقي سيدَ الغذاء ورمزَ الحياة، وصار رغيفُ الخبز المصنوعُ منه من أهم مقومات العيش، حتى صار الحدُ الأدنى للمستوى المعاشي يسمى خط الخبز (bread line) في معظم الثقافات، وفي ثقافتنا، صارت مصادر العيش تختصر كلها بالخبز، فعندما يتضرر المرء ماديا يوصف بأن (الخبز قد انقطع عنه).
يُنتَجُ القمحُ في 122 دولة في العالم، وفق دراسة محَكَّمة نشرتها مجلة (World Population Review) العلمية، وينمو في مناخات مختلفة وأنواع متنوعة من التربة، ولكن أفضل مقومات إنتاجه هو هطول الأمطار بكثافة 12-36 إنج (أو 30-90 سنتمتر)، وأكبر الدول المنتجة له هي الصين والهند وروسيا، التي تنتج بمجموعها 41% من انتاج القمح العالمي، ثم تأتي الولايات المتحدة في المرتبة الرابعة وتأتي بعدها تراتبيا كندا وفرنسا وباكستان وأوكرانيا وألمانيا وتركيا. ولو عُد الاتحاد الأوروبي دولةً واحدة، لأصبح ثاني أكبر منتجٍ للقمح بعد الصين.
هناك مجالٌ كبير للتوسع في انتاج القمح في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، لتوفر الأراضي الخصبة والمياه، إذ تبلغ المساحاتُ المزروعةُ بالقمح 50 مليون فدّان (مئتي مليون دونم). وتعتبر ولاية كنساس أكبر ولاية أمريكية منتجة للقمح، لخصوبة أراضيها وملاءمة مناخِها لزراعة المحصول، إذ يُقَدَّر بأن فدّانا من الأرض في كنساس يمكن أن ينتج قمحا كافيا لإطعام 9 آلاف شخص لمدة يوم واحد، وأن إنتاج كنساس وحدَها من القمح يمكن أن يُطعِم 6 مليارات إنسان لمدة أسبوعين، حسب تقديرات جمعية منتجي القمح الأمريكية.
إنتاج القمح ليس صعبا ويمكن معظم بلدان العالم أن تنتجه إن توفرت الأرض المناسبة، خصوصا وأنه لا يحتاج لماء وفير، كما هي حالُ الرز، مثلا، الذي يحتاج لأن تبقى مزارعُه مغطاةً بالمياه طوالَ فترةِ نموِّه إلى ما قبل الحصاد بفترة قصيرة. لكن المشكلة في إنتاج القمح هي الكلفة. في بعض البلدان، مثل روسيا وأوكرانيا والهند والصين وباكستان وتركيا، تكون الكلفةُ أقلَّ بكثير منها في الولايات المتحدة، مثلا، لكن الصين والهند يقطنهما 2.8 مليار من البشر، لذلك فإن معظم إنتاجهما يستهلك محليا. وبعد الأزمة الأوكرانية الروسية، اتخذت الهند، إلى جانب دول أخرى، قرارا بإيقاف تصدير القمح كي لا يؤثر ذلك على الأمن الغذائي لسكانها.
لابد من الاعتراف بأن هناك هدرا كبيرا في الغذاء في العالم العربي، خصوصا في الخبز والرز، بسبب التقاليد العربية المتوارَثة بتقديم الطعام بكمياتٍ تفوق المطلوب، ثم رمي المتبقي منها.
إذا ما سعى المستهلكون للتخلي عن هذه العادة، وهذا يحتاج إلى جهودٍ ثقافية، فإن نسبة كبيرة من المواد الغذائية التي تُهدَر حاليا يمكن توفيرها. وتقدِّر بعض المصادر كلفة الغذاء المهدور في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بـ 60 مليار دولار سنويا! ويقدر البنك الدولي كلفة الغذاء المهدور عالميا بترليون دولار سنويا، وهي تكفي لإطعام الفقراء في العالم البالغ عددهم 842 مليون.
يمكن التعويض عن الخبز بمواد أخرى لها مكونات غذائية مماثلة كالبطاطا والفول، وقد تقلص استهلاك الخبز والرز في معظم البلدان الغربية، وهناك الآن صناعات غذائية متطورة تنتج أغذية متنوعة، بما فيها اللحم الاصطناعي، من فول الصويا، الذي ازدادت أهميته الغذائية والاقتصادية كثيرا في السنوات الأخيرة.
العادات الغذائية تتغير باستمرار في بلدان العالم المختلفة، ولم يعد الخبز والرز يشكلان جزءا أساسيا منها، ومن الضروري أن تتغير العادات في عالمنا العربي أيضا، خصوصا مع تزايد أعداد البشر في الكرة الأرضية نتيجة لتطور الطب وكثرة الإنجاب في البلدان التي يتدنى فيها مستوى التعليم، أو تلك التي تؤمن بالقدر، وأن كل فرد يولد في الحياة “يأتي رزقه معه”، كما تقول الحكاية الشعبية.
المساحات المتوفرة للزراعة تتقلص بسبب التغير المناخي وشح المياه في بلدان كثيرة، ومازال العالم يتغير باستمرار، فإن على المجتمعات أن تغير ثقافاتها وفقا للظروف الاقتصادية، ولا ننسى أن العادات تطورت ابتداءً نتيجةً لظروف بيئية وثقافية معينة سادت في فترة ما من مراحل التطور البشري. الكرم عند العرب، مثلا، تطور بسبب الفقر السائد والحاجة إلى التنقل المستمر لمسافات طويلة، والحاجة للتوقف في الطريق لعدة أيام، لذلك تطورت عادة إكرام الضيف لأن الجميع يحتاجها. لكن الظروف تغيرت، ومعظم الناس لم يعودوا بحاجة إلى المساعدة بعد أن ازدادت الثروة وصار التنقل سهلا، وبدأت الحكومات تقدم المساعدات للفقراء، وهذه التطورات سوف تؤدي إلى تغيير العادات. إضفاء القدسية على العادات والتقاليد يخلق مصاعب للمجتمعات العصرية دون مبرر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.