د. محمد علاء يكتب | أهمية وجود مراكز الفكر المستقلة (١ – ٢)

0 257

تؤدي مراكز الفكر think tanks أدواراً هامة في عملية صنع وتنفيذ السياسات العامة في عديد من الدول حول العالم، وذلك على اتساع ساحات العمل العام في مجالات الرعاية الصحية والتعليم والنظام الضريبي والسياسة الخارجية وغيرها من المجالات.
يعد التنوع السمة الغالبة التي تظهر في عديد من الدراسات التي تناولت هذه المراكز ودرست دورها في عملية صنع القرار. وهي بوجه عام تقدم دراسات موضوعية، أو مفترض أن كذلك، لصناع القرار في مؤسسات الدولة، خاصة التشريعية والتنفيذية، وهي دراسات تتفادي التعقيد الأكاديمي، حيث تُقدَّم بلغة مبسطة وموجهة لتشكيل سياسات معينة مع شرح أدوات تنفيذها (مثلاُ عن طريق إصلاحات تشريعية أو توجيهات رئاسية)، وتشرح تبعات هذه السياسات، كما تقدم تقييمات لسياسات قائمة أوا تم تطبيقها بالفعل ، وتبتعد بقدر الإمكان عن الـ”ينبغيات” (وهي التوصيات التي تبدأ بـ”ينبغي أن” وينتقدها الكثيرون في الأبحاث العلمية المنشورة في دوريات محكمة لأنها غير واقعية أو تفتقد لآليات التنفيذ)، والأخيرة علي أهميتها لا تصدر بالسرعة والطريقة المناسبتين للاستجابة إلي احتياجات صانع القرار في الوصول إلي معلومات مدققة وموجهة للاستجابة إلي احتياجات حالة في ساحة العمل العام.
وهي بهذا تساهم ليس فقط في صنع السياسات العامة، ولكن كذلك في خلق مناخ صحي للنقاش والجدال العام المبني على دراسات رصينة يقدمها خبراء في مجالاتهم. ومن ثم فإن من بين ما يميز هذه المراكز اعتمادها على متخصصين ، والقدرة على الاستجابة السريعة للتطورات في الساحة السياسية، والتواصل مع وسائل الإعلام وصناع القرار، والمشاركة في المناقشات الجارية حول سياسات معينة.
في الدول التعدية pluralistic societies، يصعب فصل الدور الذي تقوم به هذه المراكز في صنع السياسة policy عن دورها في المنافسة السياسية بين الأحزاب وجماعات المصالح والتجمعات السياسية الأخرى (يتم التعبير عن المنافسة السياسية من هذا المنطلق باستخدام مصطلح politics، وهو ما يشير إلي المنافسات والصراعات بين الإيديولوجيات والأفكار والمصالح التي تعبر عنها المؤسسات السياسية، والتي يأتي علي رأسها الأحزاب السياسية).
يظهر هذا الدور علي أوضح ما يكون في الولايات المتحدة، ورغم أن غالبية مراكز الفكر الأمريكية تشير إلي نفسها باعتبارها غير حزبية non-partisan، مثل مراكز الدراسات الكبرى التي يأتي من ضمنها Brookings Institution و Carnegie Endowment for International Peace و Center for Strategic and International Studies وغيرها من مراكز الدراسات الهامة التي تتسع تخصصاتها لتشمل عديداً من المجالات، فإن ادعاء الحيادية في كثير من الأحيان تكون مدفوعة بالرغبة في ضمان الحصول علي إعفاءات ضريبية وتوسيع مساحة القراء ومن ثم تأثير مخرجاتها البحثية.
ففي غالبية من الأحيان تتأثر هذه المراكز بانتماءاتها الحزبية أو الفكرية أو بمصادر التمويل. على سبيل المثال، مراكز بحثية من قبيل Heritage Foundation و American Enterprise Institute هي مراكز يمينية محافظة بامتياز، ومن ثم تساند الحزب الجمهوري، وتقدم دراسات غالباً ما تساند توجهاته الهادفة إلي تقليص تدخل الدولة في الاقتصاد وتخفيض الضرائب، خاصة علي أرباح الشركات الكبرى، وحماية قيم الأسرة، وتبني سياسة خارجية استباقية تتسم بالعدوانية أحياناً، وهو ما ميز الدراسات التي قدمها American Enterprise Institute لإدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، وطرحت مصوغات لغزو الولايات المتحدة للعراق.
على الجانب الآخر توجد مراكز دراسات أخري تقدمية تميل بوضوح إلى اليسار الأمريكي والحزب الديمقراطي، ويأتي على رأسها Center for American Progress، وتوجد كذلك مراكز دراسات تتبني توجه libertarian، وهو التوجه الذي يجمع بين تبني مبادئ تقليص دور الدولة اقتصادياً، وهو ما يتفق مع مبادئ المحافظين، وكذلك حماية الحريات الشخصية، وهو ما يتفق مع مبادئ اليسار، إضافة إلى مناهضة تبني سياسة خارجية توسعية، ويأتي على رأس المراكز البحثية التي تتبني هذا النهج Cato Institute.
وتتنوع مصادر التمويل بين المصادر الحكومية والشركات الخاصة والأفراد، ولا شك أن هذه المصادر تلعب دوراً هاماً في توجيه أبحاث هذه مراكز وتوصياتها، خاصة مع إمكانية تلقي هذه المراكز أموالاً من الخارج، وهو ما أدي إلي تصاعد أصوات تنادي بمزيد من الشفافية في ميزانيات وبرامج هذه المؤسسات.
وقد أسهمت مراكز الفكر في صياغة سياسات كبري في التاريخ الأمريكي، على سبيل المثال، كان مشروع مارشال عام 1947 من انتاج مركز بروكينجز Brookings، وهو المشروع الضخم الذي هدفت من خلاله الولايات المتحدة لإقالة دول أوروبا الغربية من أزماتها الاقتصادية عقب الحرب العالمية الثانية منعاً لوقوعها تحت طائلة النفوذ السوفيتي.
وفي الآونة الأخيرة زادت أعداد مراكز الفكر المتخصصة في مجال محدد من مجالات السياسات العامة، مثل Center for Tax Policy، وهو مشروع مشترك بين مركزين هامين للفكر في الولايات المتحدة، هما Urban Institute و Brookings Institution، ويعبر التوسع في انشاء هذه المراكز عن تعقد قضايا السياسات العامة المطروحة علي الساحة العامة والحاجة إلي مزيد من التخصص.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.