سعود سالم يكتب | العدمية كمحرك للإبداع

0 278

يمكن إعتبار فوسكا، أحد أبطال أعمال سيمون دو بوفوار، النقيض الموضوعي لجلجامش الذي تعذّبه فكرة الموت والفناء وفكرة أن الدود والتراب سيأكلون جسده كما حدث لصديقه إنكيدو. أما فوسكا فإنه وصل مرحلة فقد فيها إنسانيته ولم يعد قادرا على الحياة رغم أنه لا يستطيع الموت، وهو معذب نتيجة أن الحياة لا تتغير والأيام كلها متشابهة والبشر كلهم سواء، لأنه عاش أكثر من خمسة قرون متتالية، بكل بساطة لقد أصابه الملل من كثرة الحياة.
جراهام جرين Graham Greene الكاتب والجاسوس الإنجليزي، حاول طيلة حياته قتل الملل والضجر من الحياة، سافر مبتعدًا عن إنجلترا، نحو ما سماه «الأماكن الموحشة والنائية في العالم – heart of darkness»، حيث أدت رحلاته العديدة إلى تجنيده في جهاز الاستخبارات البريطاني على يد أخته إليزابيث، التي عملت في الوكالة، ولذا، نُقل إلى سيراليون خلال الحرب العالمية الثانية. كان كيم فيلبي، الذي كُشف لاحقًا بوصفه عميًلا سوفيتيًا، مشرفًا على جرين في الوكالة وصديقًا له وكتب جرين مقدمة لمذكراته. في 1935 قام برحلة عبر ليبيريا، وصفت في كتابه ” رحلة بلا خرائط Journey Without Maps”. وهي رحلته الأولى خارج أوروبا، وكانت المناطق الداخلية من ليبيريا في ذلك الوقت غير معروفه للأوروبيين وبدون خرائط (كانت خريطة الحكومة الأمريكية تمثل المناطق الداخلية في ليبيريا بمساحة بيضاء كبيرة مكتوب عليها جملة “آكلة لحوم البشر – “cannibals”، ولذا فقد اعتمد على المرشدين المحليين والحمالين للقيام برحلته. وقد أكتشف أثناء هذه الرحلة حقيقة بسيطة لم يكن يعرفها من قبل على ما يبدو وهي “حب الحياة”، وهو الشيء الذي افتقده فوسكا. وفي مقالة كتبها جراهام جرين بعنوان “المسدس في خزانة الزاوية”، يحكي كيف أنه حينما كان صبيا كان يحب اللعب بالموت لأنه لم يكن يعرف ماهيته الحقيقية. لقتل الضجر والملل من الفراغ، كان يلعب بمسدس أخيه لعبة الروليت الروسية Russian roulette هي لعبة الصدفة أو الحظ، خطرة ومميتة نشأت في روسيا القيصرية. يقوم الشخص الذي يود القيام بها بوضع رصاصة واحدة في المسدس، ثم يقوم بتدوير الإسطوانة التي يمكن أن تحمل ست رصاصات عدة مرات بحيث لا يعرف مكان الرصاصة، ومن ثم يوجه المسدس نحو رأسه ويسحب الزناد، احتمال إنطلاق الراصة هو 1 من 6. لعبة البوكر الروسية التي تختلف عن لعبة الروليت الروسية في أن اللاعبان فيها يقوم كل منهما بتوجيه المُسدس إلى رأس اللاعب الآخر، أما في الروليت الروسية فيقوم اللاعب بتوجيه المُسدس إلى رأسه هو نفسه. وفي كتابه “طرق للهروب – Ways of Escape”، فإنه يحلل أفعاله في الحياة، من الرحلات والكتابة والتجسس والمغامرات المختلفة كوسيلة للهروب من الضجر “أتساءل أحيانا كيف يمكن لأولئك الذين لا يمارسون الإبداع – سواء الأدب أو الرسم أو الموسيقى – أن يهربوا من الجنون والكآبة والذعر المتأصل والملازم للوضع الإنساني “. أما مالون، بطل بيكيت التراجيدي اللامعقول، والذي يتحدث عن حياته الماضية الغريبة، حيث كان سائلا في البداية ثم تحول إلى شيئ ما يشبه الوحل، أو حين كاد أن يضيع في ثقب إبرة: ” ولكن ما الفائدة ؟ سواء ولدت أو لم أولد، عشت أو لم أعش، ميت أو في سبيلي إلى الموت. سأمضي فيما أفعله كما أعتدت أن أفعله دائما، دون أن أعرف ما الذي أفعله أو من أنا أو أين أنا أو إذا كنت أنا هو أنا ”
أما تشسترتون Chesterton الكاتب الإنجليزي مبدع شخصية القسيس المحقق Father Brown، فإنه على العكس من بيكيت يرى أن “اللاشيئية” ما هي إلا نوع من سوء الهضم الروحي المرتكز على الكسل والوهم الذاتي. ولا شك أن “اللاشيئية” تغطي مفاهيم عديدة في فكر تشيسترتون المؤمن والداعي المتحمس للمسيحية الكاثوليكية، مثل العدمية والعبثية واللامعقول .. إلخ
هذه القرائن المستقية من الفكر الأوروبي المعاصر تذكرنا بأهمية الموضوع الذي نعالجه وتسربه في كافة النشاط الفكري والإبداعي، ويدعونا لضرورة محاولة إعادة السيطرة على هذه المفاهيم المتشعبة وزيارتها من جديد وإسترجاع خطوطها ودوائرها وتشعباتها المتعددة، وذلك من أجل توضيحها وتنقيتها من شوائب المثالية وتنظيفها من آثار الفكر الرجعي الذي يجذب المجتمعات الإنسانية نحو الهاوية، هاوية الغيب والميتافيزيقا لنسقط في دوامة التلفيق ودمج الأسطورة بالتاريخ ومضغ الأحلام القديمة وإجترارها على مدى القرون.
إن أغلب المفاهيم المرتبطة بالنفي والسلب والرفض والخواء واللاشيئ وعدم القبول وعدم اليقين، كالعدمية والعبثية والإرتيابية والوجودية وغيرها، هي محور وقلب الإنسان الواعي الذي يطمح في التحكم في حياته بحرية مطلقة، وهي بالضرورة تشكل مستقبل هذا الإنسان وحاضره، ومنبع كل إمكانياته الخيالية والفكرية وعليه أن يبني حياته ويشيد مشروعه الوجودي إنطلاقا من هذه المفاهيم وأن يعطيها مضمونها الخلاق وكل إمكانياتها الإبداعية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.