فهد المضحكي يكتب | التفكير العلمي

0 119

إن التفكير العلمي الذي يتحدث عنه الفيلسوف فؤاد زكريا لا ينصب على مشكلة متخصصة بعينها، أو حتى على مجموعة المشكلات المحدد التي يعالجها العلماء، ولا يفترض معرفة بلغة علمية أو رموز رياضية خاصة، ولا يقتضي أن يكون ذهن المرء محتشدًا بالمعلومات العلمية أو مدربًا على البحث المؤدي إلى حل مشكلات العالم الطبيعي أو الإنساني، بل ذلك النوع من التفكير المنظم، الذي يمكن أن نستخدمه في شؤون حياتنا اليومية، أو في النشاط الذي نبذله حين نمارس أعمالنا المهنية المعتادة، أو في علاقتنا مع الناس ومع العالم المحيط بنا. وكل ما يشترط في هذا التفكير أن يكون منظمًا، وأن يبنى على مجموعة من المبادئ التي نطبقها في كل لحظة من دون أن نشعر بها شعورًا واعيًا، مثل مبدأ استحالة تأكيد الشيء ونقيضه في آن واحد، والمبدأ القائل إن لكل حادث سببًا، وإن من المحال أن يحدث شيء من لا شيء. وفي اعتقاده أن موضوع التفكير العلمي هو موضوع الساعة في العالم العربي. ففي الوقت الذي أفلح فيه العالم المتقدم – بغض النظر عن أنظمته الاجتماعية – في تكوين تراث علمي راسخ ممتد، في العصر الحديث، طوال أربعة قرون، وأصبح يمثل في حياة هذه المجتمعات اتجاهًا ثابتًا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، في الوقت ذاته يخوض المفكرون في عالمنا العربي معركة ضارية في سبيل إقرار أبسط مبادى التفكير العلمي. واليوم، لا يملك أي شعب يريد أن يجد له مكانًا على خريطة العالم المعاصر إلا أن يحترم أسلوب التفكير العلمي ويأخذ به. وباختصار، ليس التفكير العلمي هو حشد المعلومات العلمية أو معرفة طرائق البحث العلمي في ميدان معين من ميادين العلم، وإنما هو طريقة في النظر إلى الأمور تعتمد أساسا على العقل البرهان المقنع بالتجربة والدليل.
تحدث عن عقبات التفكير العلمي، وهي كثيرة، من بينها الأسطورة والخرافة، والخضوع للسلطة، وهي، برأيه، المصدر الذي لا يناقش، والذي نخضع له بناء على إيماننا بأن رأيه هو الكلمة النهائية. والخضوع للسلطة أسلوب مريح في حل المشكلات، ولكنه أسلوب ينم عن العجز والافتقار إلى الروح الخلاقة. ومن العقبات القِدٓم، ويعني بذلك، أن قدم الرأي لا ينبغي أن يعد دليلاً على صوابه. ومن العقبات أيضا الانتشار، والرغبة والتمني، والشهرة، وإنكار دور العقل، والتعصب، والإعلام المضلل. وإذا ما أردنا أن نشير الى عقبة الأسطورة والخرافة، فإن أهم ما خلص إليه هو أن في حالة مجتمعاتنا العربية يتخذ التفكير الخرافي شكل العداء الأصيل للعلم والعقل، ويمثل هذا العداء امتدادًا واستمرارًا لتاريخ طويل كان العلم يخوض فيه معركة شاقة لكي يثبت أقدامه في المجتمع. وإذا كان قد بدا خلال فترة قصيرة أن العلم تمكن من تأكيد ذاته في مجتمعنا العربي، فمن المؤكد أن ذلك لم يحدث على مستوى المجتمع كله، وأن العداء للعلم كان هو الغالب في بقية الفترات في تاريخنا. وهكذا فإن انتشار الخرافة يمثل، في حالتنا، تعبيرًا عن جمود المجتمع وتوقفه عند أوضاع قديمة ومقاومته للتطور السريع المحيط به من كل جانب، والفرق واضح بين هذا الأسلوب في التفكير الخرافي وأسلوب تلك المجتمعات التي مرت بتجربة التفكير العقلي حتى أعلى مراتبها، والتي يحاول بعض أفرادها أن يرتدوا عن هذه التجربة «من موقع الاندماج فيها» لا من موقع الجهل بها أو الخوف منها أو العجز عن تحقيقها، أي أن الفرق واضح بين الفكر الخرافي حين يكون تعبيرًا عن جمود متأصل وتحجر على أوضاع ظلت سائدة طوال ٱلاف السنين من دون أن يرغب المجتمع في تغييرها أو يجرؤ عليه، وبين هذا الفكر ذاته حين يكون تعبيرا – محدود النطاق – عن رغبة في التغيير يشعر بها مجتمع لا يستطيع أن يظل أمدًا طويلاً على حالة واحدة، حتى لو كانت هذه الحال هي التفكير العلمي الرشيد. بالمقابل، فإذا أخفقت محاولات ربط الخرافة بالعلم، فإن أنصارها يلجأون إلى آخر أسلحتهم وأخطرها على التفكير الشعبي، وهو الربط بين الخرافة والدين. وهكذا تراهم يستغلون وجود بعض الحقائق الغيبية، كالروح مثلاً، ووجود بعض النصوص الدينية التي تتحدث عن السحر والحسد…الخ، لكي يدافعوا بحرارة عن حقيقة الظواهر الخرافية، مؤكدين أن الدين نفسه يدعمها. وهذا، ومن وجهة نظره، أخطر الأسلحة، لأنه يستغل عمق الأيمان الديني من أجل تأكيد الفكر الخرافي، ولأنه يضع الدين – بلا مبرر – في مواجهة العلم، ويضع عقول الناس في مواجهة الاثنين معًا، فتقف حائرة بين عقيدة متأصلة فيها، وبين منهج علمي تثبت صحته على أرض الواقع العلمي في كل لحظة.
فإذا ما أردنا أن نقدم عرضًا موجزًا لأهم الاستنتاجات التي يطرحها هذا الإصدار، فإن من المهم أن نتوقف عند بعض التفسيرات التي أشار إليها في خاتمة هذا المنجز الرائد. فهو يذكر، حين نقول إن النتيجة التي يؤدي إليها مسار التفكير العلمي في رحلته الطويلة الشاقة، هي توحيد الإنسانية، فنحن نعلم تمامًا أن هذه النتيجة بعيدة عن أن تتحقق. ولكن الأمر الذي نود أن نؤكده هو أن كل العوامل التي تقف حائلاً دون هذا التوحيد تتعارض مع الطبيعية الحقيقية للعلم، ومن ثم فإن التفكير العلمي ينبغي أن يزيحها جانبًا آخر الأمر. ولكن ما هذه العوائق التي تقف في وجه استخدام العلم لمصلحة الإنسانية جمعاء، بدلاً من أن يستخدم – كما هو حادث في الوقت الراهن – أداة للتفرقة بين البشر: وزيادة قوة فئات أو مجتمعات معينه على حساب الباقين؟ إن من المعترف به أن العلم كان، منذ بداية تقدمه في العصر الحديث، يخدم مختلف أنواع المصالح والجماعات البشرية، ولكننا اليوم نستطيع أن نشير إلى طريقتين واضحتين في استخدام العلم، تؤدي كل منهما، بطريقتها الخاصة، إلى إرجاء اليوم الذي سيصبح فيه العلم قوة موحدة تخدم الإنسانية بلا تفرقة. هاتان هما: النزعة التجارية والنزعة القومية في استخدام العلم.
وفي تقديره مثلما تبين بعد وقت غير طويل، أن نظام «الاقتصاد الحر»، إذا ترك يسير تلقائيا من دون ضابط، فإنه يؤدي إلى عكس الغرض الذي كان يتصوره «مفكروه وفلاسفته الأوائل»، ويوقع الإنسان فريسة للاستغلال بدل من يخدم مصالحه المادية. فضلًا عن ذلك، فإن العلم، في ظل الاستغلال التجاري يمكن أن يصبح موضوعًا للاحتكار. فنظام براءة الاختراع يعطي المؤسسة التي تشتري حق استغلال كشف معين الحرية في استخدام هذا الاختراع أو عدم استخدامه، وقد يظهر كشف علمي أو تكنولوجي مهم من دون أن يعلن على الملأ ومن دون أن ينشر بين الناس؛ لأن في نشره إضرارًا بمصالح تجارية ضخمة. بيد أن العيب الأكبر في الاستغلال التجاري للعلم هو المبدأ نفسه، يعني إخضاع البحث العلمي للاعتبارات التجارية؛ ذلك لأن العمل العلمي الكبير شيء أعظم وأشرف من أن يقوم ويخضع للمقاييس التجارية بالمال. إن من الصحيح بالفعل – من دون أي محاولة للكلام بلغة إنشائية – أن هناك أمورًا أسمى وأرفع من أن يعبر عنها بلغة التجارة والمال. فالكشف العلمي الذي يسعد الإنسان ويسمو به في كل مكان، هو ناتج للعبقرية البشرية لا يصح أن يقاس بالمقاييس المادية. وعلى رغم ذلك فإن الحقائق المريرة في عالمنا المعاصر تقول عكس هذا، وتؤكد أن العلم يُستغل ويقوم تجاريًا، وانه يستخدم لتحقيق أرباح لمؤسسات معينة، تجني منه أضعاف أضعاف ما أنفقت عليه، وتستخدمه لتحقيق أهداف مضادة لتلك التي يتجه إليها عقل العالم، ذلك العقل الذي لا يحركه إلا السعي إلى خدمة البشرية كلها لا لتحقيق مصلحة فئة واحدة من فئاتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.