محمد رياض إسماعيل يكتب | فهم النفس مظلة لتربية الأجيال

0 143

ما هو النفس؟ النفس بودقة تحوي احاسيس وشعور وتصورات واحتياجات رومانسية، الاحساس لامتلاك دار او القِران بزوجة او زوج وآمال بمواصفات خاصة ومخزون الكفاح والمنجزات والطموح وهكذا.. الحواس تلتقط في الثانية 10 الاف معلومة ولا يمكن للمخ الا ان يتعامل مع سبعة معلومات في الثانية، أي يتجاهل 9993 معلومة. هذه البودقة تبدأ في الخزن منذ الطفولة، حين يولد طفل يجد نفسه في حيره وتيه، مرعوب من العالم بمشاهده الغريبة واصواتها المخيفة، لا يفهم اي منها، بالتدريج يبدا في التعرف على نماذج معادة ومكرره يخزنها في عقله وعلى مدى بضعه ايام يكون قد جمع نماذج كافيه لخلق عالم بأجمعه في النفس، ليضمن من خلاله حماية الذات. لذلك عندما يواجه موقفا جديدا لا يفهمه لا يجد نفسه مضطرا الى دراسته دراسة عميقه، فالنماذج التي يختزنها بعقله تمكنه من السيطرة على الموقف في نصف الوقت بأنماط. ان هذه النمطية يجعله قليل الاهتمام بالتفاصيل وتحليل المواقف كلما كبر في العمر والتجربة، ويتصرف وفق المخزون بما تعود عليه. كل تلك الامور متمركزة في النفس، بيتي وعائلتي واطفالي وحسابي في البنك وماذا انوي فعله، كل ذلك هو النفس، ليس وصفا انشائيا بل الانا والاخرين، كما تحوي الشعور الوطني والعادات البيتية والاجتماعية، الاسم، القدرات الفكرية، الرغبة الواضحة، كل تلك المخزونات هي الانا وانت، نحن وهم، ومن هذا المركز تصدر كل قراراتنا وافعالنا وطموحاتنا وامالنا واختلافاتنا وشجارنا وافكارنا وتجاربنا التي تتحكم بنا، جميعها تنطلق من هذا المركز. وهي تتجذر في وعينا الداخلي، فهذا في المجمل انا وانت، وينطبق على البشر بكل مستويات الوعي.
وبالتدريج تنزلق الحياة والوعي بها الى حاله من آلية التكرار والنمطية. “البشر هم الكائن الوحيد الذي يقضي 99% من وقته داخل راسه بين افكاره الداخلية الخاصة التي تكون عالما من صنعه مغايره للواقع خارجه”.. ويعني ذلك طبعا ان البشر يحتفظون فقط بحاله تنبؤ الاحساس بالواقع بنسبه 1% من الوقت والمدهش ان البشر بهذه النسبة الضئيلة أسهل كثيرا وأكثر قابليه للتنويم والاستغلال والوقوع في مصيده الحلقة المفرغة للذهن الشخصي. ان زيادة فقد الصلة بعالم الواقع، تولد الجريمة كطريقة سهلة لتحقيق الآمال.. يذكر كولن ويلسن افتراض حالة الانفصام المتولد مما تم ذكره أعلاه بالمثال التالي:
” انت متعجل تريد ان تصل بسرعه الى موقع عملك لأنك تأخرت على الموعد المحدد، وهناك حاله ازدحام شديد وبطء في حركه المرور، كل اشاره مرور حمراء كأنها معاديه لك، فيزداد غضبك وغيرتك بمرور الوقت، تتحول اشاره المرور بعد زمن، تخاله دهرا، من الاحمر الى الاخضر الا ان السيارة التي امامك لا تتحرك، وحين تكون على وشك اخراج راسك من نافذه سيارتك لتسب سائق السيارة التي امامك، يلتفت نحوك، لتجده فجاه وانت في قمة الغيظ انه رئيسك في العمل، في اقل من لحظه يتلاشى غيضك، فما الذي حدث؟ الغضب والتوتر ادخلاك في حلقه مفرغه من التوتر الداخلي المتزايد، ويؤدي ذلك بدوره الى المبالغة في حكمك على الأمور، اي تصبح احكامك شخصيه وذاتيه. وغيضك الشديد من المرور واشاراته التي توقفك غير منطقي تماما، فالسيارات الاخرى التي تسلك الطرق المتقاطعة مع طريقك، لها الحق نفسه ان تمر في اتجاهها أيضا. واشارات المرور تعمل بطريقه اليه اي انها لا تتحول الى اللون الاحمر لأنها تراك قادما.”
السؤال هنا هل بالإمكان ان نتصرف خارج هذا المركز او التخلص منه؟ حين نقول التخلص نعني بالتخلص من الاثار السلبية التي تولده، لان هذا المركز يقسم البشر ويفرقهم، انا وانت وهو، وطني ووطنك، ومعتقدي ومعتقدك او ديني ودينك، كل تلك الاختلافات ستؤدي الى الانقسام وبالتالي الى الصراعات، ويجعلني او يجعله مختلفان بالاسم واللون والعرق والتراثية وبوظائف ومراكز مختلفة وهكذا فإنها تتعدد الى أصناف من الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية. هناك نص سيخي هندوسي يقول” ان العقل ذابح الواقع”، وهي تعني ان حالتنا العقلية والذاتية الداخلية تعزلنا عن الواقع وقد تفصلنا عنه، ويفترض ان ندرك بانه أينما ظهرت الانقسامات تبدأ الصراعات، كصراع الأديان والقوميات والتي جلبت الحروب وخلقت العنف والكراهية بين الناس عبر التاريخ. النفس يعتبر ذاته مثاليا نبيلا، ويحارب من اجل النبل، ذلك النبل “الاناني”. فحين تقصد مكان للعبادة لتنقية الروح وتعميق الايمان بالقدرة الخارقية لدينك ومعتقدك، فإنها تتعمق في داخلك، تتجذر في اللاوعي، لتصبح صورة فكرية تتعلق بها كما يتعلق المحب بحبيبته، أي تصبح من مرافقاتك الشخصية التي تتمركز في النفس، وكلما مضى بك العمر يكون هذا المركز بؤرة المشاكل والافراح والخوف والاحزان، وفي النهاية تتساءل هل بإمكاني التخلص من المشاكل والاحزان!! بإمكاننا الاسهاب في ذلك، لكن هذا هو الأساس. والسؤال الان هل من الممكن التخلص من كل هذه الاسس المتمركزة في النفس دفعة واحدة وليس جزئيا؟ ربما يقول البعض بالإمكان ذلك بتقليل الانانية وتضعيفها او تجاوزها ومع عدم إيلاء الاعتبارات الاجتماعية اية أهمية في العلاقات، رغم ان عدم الاكتراث بالاعتبارات الاجتماعية تجلب علينا وجعا في القلب وانكسارا. يبقى السؤال هل نتمكن التحرر من مكنون مركز النفس؟ لاحظ ان كل جهد تدخر لإزالة مركز الانا يقوي النفس، والأشخاص اللذين يحاولون ذلك بالتأمل والملاحظة العميقة، باذلين جهدا في محاولة لفرض شيئا على ذلك، ستقتنص المحاولة من الذات وتخزن ذلك كإنجاز لها، ولاحظ ان ذلك يجري في مركز الذات. لو افترضنا اننا تمكنا التخلص من مكنون مركز النفس بالتأمل العميق او بالعبادة، فهذا انجاز للنفس الا إذا جاءت بلا جهد. اذن، أنك ترى حقيقة انه كلما زاد الجهد كلما زاد مشوار الذات، مشوار الذات الذي يبذل جهدا للتحرر من نفسه يستمر منخرطا في تأمل التغيير والتحرر، لكن لا يزال نشاط المركز النفسي هو الذات! في الفلسفة البوذية والهندوسية ذات حقيقية بصرف النظر عن الذات التي أنشأها الفكر، ذاتٌ مبرمج للعواطف والحماية للبقاء، ذات عليا.
نعود للسؤال، هل من الممكن أن نتحرر تماما من هذا التعلق او المتعلقات او المرافقات؟ أنا مرتبط بسمعتي أنا مرتبط باسمي أنا متعلق بتجربتي أنا متعلق بما قلته، بعائلتي، بعقيدتي وهلم جرا، هل من الممكن أن أكون متحررا من كل هذه المرافقات. إذا كنتم تريدون حقا أن تتحرروا من هذه الذات فلا تعلقوا أنفسكم بالمرافقات، وهذا لا يعني أنكم تصبحون منفصلين غير مبالين قساة. هل من الممكن أن تكون حرا من التعلق دون بذل جهد مثلا التعلق بزوجتك بأطفالك باسمك، بالتحكم على حسابك المصرفي (الذي يستفيد منه البنك)، منفصل عن أي شيء في البلد والمعتقد، عندما تكون عميقا في إرساء أساس هذه المشاعر في مركز النفس بالشعور العميق بعدم التعلق، تعرف ما يعنيه عدم التعرف على أي شيء مثل بلدك او إلهك، لذلك عندما تمحي التعلق من هكذا شعور عميق تأتي المسؤولية، لا مسؤولية تجاه زوجتي تجاه أطفالي تجاه ابنة أخي، تجاه الاخرين، التخلي عن الشعور بالمسؤولية كما هو الحال معك طبيعيا، هل بإمكانك فعل ذلك؟ هذا السؤال الذي يمكننا التحدث عنه إلى الأبد بعبارات مختلفة، ولكن عندما يتعلق الأمر باختباره، لا يبدو أننا نريد القيام بذلك، لذلك نفضل الاستمرار في وضعنا الراهن.
من الضروري في تربية النشء الجديد الانتباه الى معايير هذه المرافقات والمتعلقات، فان تعمقت في جذور الذات، رسخت فيها، وتظهر اثارها سلبا وايجابا، والسلبيات تخلق مجتمعا عنيفا ميالا للفوضى والعبث، والايجابيات تأتي بالاستقرار والأمان الاجتماعي التي في ظلها تنمو مرافق الحياة بكل اشكالها. وهذه لا تعني بالضرورة التربية بالإملاء، بل ترك اغلب القضايا التي تخلق الانقسام لمراحل نضج المتلقي لكي يكون حرا في الاختيار. التربية هي وسيلة لتوسيع مدارك المتلقي الى افاق متعددة وترك القرار للمتلقي، مع التركيز على العلوم التطبيقية والتجريبية العلمية. فليس التعليم هو في تحقيق امانينا في تخريج اطفالنا مهندسين واطباء وضباط.. الاباء يريدون اولادهم على طريقتهم! أكمل دراستك في المدرسة وتعين وتوظف ثم نأتيك بالزوجة الصالحة! اي نختصر العملية في التعليم الجزئي بعقلية الحصول على شهادة؟ هل نُعلِم الطالب كيف يواجه الحياة ام نُعلِمه كيف يكون له ذاكرة للتحفيظ وصولا لإنجاز هدف الإباء! نحن نستخدم التحفيظ واقناع أنفسنا، وليس لمواجهة انواع الحياة ونسينا الجانب النفسي للحياة تماماً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.