محمد زكريا توفيق يكتب | العلامة أوريجانوس والكنيسة المصرية (١)

0 283

كل عصر من عصور الإبداع، يظهر فيه أفراد، إنتاجهم الفكري الغزير يذهل عقل القارئ الحديث. من هؤلاء النوابغ، أوريجانوس. يقول إبيفانيوس أنه قام بتأليف ستة آلاف رسالة في اللاهوت المسيحي. ويقول عنه العلامة جيروم: “من منا يستطيع قراءة كل أعماله”.

كان يوظف لديه سبعة إملائيين ودسته نساخ وخطاطين. صديقه أمبروس، كان يقوم بالعناية والإشراف على إنتاجه الفكري ونشر كتبه.

كان خليطا من “إتش جي ويلز”، “هاري إلمار بارنز” و”أدلوف هارناك”. لم يكن أوريجانوس خصب الإنتاج فقط، لكنه كان من أعظم المفكرين الليبراليين الذين ظهروا في الألف سنة الأولى من تاريخ المسيحية.

تثقف في مدارس الإسكندرية وأنطاكية (مدينة على نهر العاصي تحت السيادة التركية حاليا). يمثل التيار العقلاني الغير متعصب دجماتيكيا للتفسيرات المسيحية. ويقف الآن كأحد ينابيع الفكر الليبرالي، حتى بمقايسنا الحديثة.

ولد أوريجانوس في الإسكندرية عام 185م، وتتلمذ على يدي كليمينت في مدرسة اللاهوت بالمدينة. كان تعليمه يشمل دراسة العلوم والفلسفة إلى جانب اللاهوت. كان يحفظ الكتاب المقدس عن ظهر قلب. لكنه كان حريصا على فهم أدبيات الإنجيل بعمق.

أثناء اضطهاد المسيحيين في عهد سيبتيموس سيفيروس، قبض على والد أوريجانوس وأودع السجن. كان عمر أوريجانوس 17 سنة في ذلك الوقت، وكان يرغب في أن يموت شهيدا مع والده، لكن والدته منعته من مغادرة المنزل، وقامت بإخفاء كل ملابسه. فاكتفى بالكتابة إلى والده، لكي يشد من أزره وليدعوه للصمود والحفاظ على إيمانه.

موت والد أوريجانوس، ترك أرملته وسبعة أطفال بدون ممتلكات، التي تم مصادرتها بأمر من الحاكم. أوريجانوس، الأكبر سنا، أعطي بيتا للسكن، هبة من سيدة ثرية من سيدات الإسكندرية، كانت قد تحولت إلى المسيحية حديثا.

قابل العلامة بول الأنطاكي، الذي لم تعجبه أفكاره. فقد كان أوريجانوس يعتبر هذه الأفكار غير مسيحية وغير مقبولة. لذلك، تركه وقرر أن يعتمد على نفسه. ولكي يقيم أوده، كان يبيع ما يملك من مخطوطات ومراجع يونانية، كان قد اختطها بنفسه.

حصيلة بيع الكتب، أعطته شيئا من الاستقلال. في نفس الوقت، كان يقوم بالتدريس بالنهار والاستذكار بالليل. لم يمضي وقت طويل قبل أن تذاع شهرته ويدرك الجميع مقدرته الفائقة على التدرس.

بدأ أوريجانوس كمدرس بلاغة. ثم بدأ في مهاجمة الديانة الوثنية والدعوة للمسيحية. الكثيرون المتحولون إلى المسيحية حديثا كانوا يأتون إليه لأخذ التعاليم. وكان يصر على القول بأن الإيمان والعلم ليسا عدوين متناقضين. بل من الضروري للمسيحي الحق، أن يحوز تعليما ليبراليا.

كان يعبر باستمرار عن أسفه وحزنه على من تم اضطهادهم من المسيحيين، ويظهر إعجابه بمن نال منهم الشهادة. هذا بالطبع قد أغضب السلطات الوثنية. النتيجة، أنه كان يقذف بالحجارة ويهان في الأماكن العامة. ثم قامت السلطات بغلق مدرسة كليمينت التي كان يدرس بها، فاضطر للفرار.

الآن، عمره 18 سنة. بدأ يلفت الأنظار إليه، وبلغت شهرته الآفاق، حتى بين الوثنيين. مما جعل ديميتريوس، بابا الإسكندرية، يعينه رئيسا للمدرسة الشهيرة في المدينة.

بالرغم من الاضطهاد الديني والخطر الداهم المحدق بالمدرس الصغير، أثبت أوريجانوس أنه أهل للإحترام كرجل حكمة، غيور وماهر في العلوم الدينية. لم يكن يقبل أجرا من طلبته، بحجة أن ذلك يتعارض مع تعاليم الكتاب المقدس.

كان يبين في محاضراته أن الديانة المسيحية تتفق تماما مع العلوم والفلسفة. وكان يدرّس المنطق والهندسة والفلك والفلسفة، كمقدمة لدراسة التعاليم المسيحية والأخلاق.

يختلف أوريجانوس عن آباء الكنيسة المسيحية، في أنه كان يدرّس الأدب الإغريقي والفلسفة. لم يكن يشارك في تعصب أصحاب العقول الضيقة من المسيحيين، الذين يرفضون ويمنعون تدريس العلوم الوثنية، علوم الكفار.

تحت تأثير تقشف الفلاسفة الرواقيين، والأفلاطونيين المحدثين، وقيام الصوامع المعزولة، أخذ أوريجانس مبدأ التحكم في النفس إلى مداه. وكان حريصا على أن يكون فوق الشبهات.

وحيث أنه كان يخالط تلاميذه من الرجال والنساء، وجد أنه من الضروري أن يقوم بخصي نفسه. لكي يحمي نفسه من أية تهمة تمس نقاءه وشرفه. هذا أسلوب كان شائعا في القرن الثالث بالإسكندرية. لكنه أسف على ذلك لاحقا. واعترف أنه كان خطأ تقدير، جاء بهدف نبيل.

أول من تحول إلى الدين المسيحي على يدي أوريجانوس، هو أمبروس، أحد أثرياء الإسكندرية، الذي أصبح صديقه الوفي. هذه الصداقة، كانت السبب الرئيسي في غزارة إنتاج أوريجانوس الفكرية. الصديق الثري لم يقم بتشجيعه للدراسة فقط، لكن أمده أيضا بالأموال اللازمة لشراء المخطوطات، وساعده في نشر كتاباته وإنتاجه الفكري.

بمساعدة الصديق، وبتوظيف مساعدين مدربين له، دخل أوريجانوس الآن في مرحلة نشاط فكري يصعب تصديقها. كان لا يأكل ولا ينام إلا للضرورة. وبعد أن ينهك كتبته بما يمليه عليهم أثناء النهار، كان يقضي المساء في مناقشة التفاسير مع الصديق الوفي أمبروس. لم تكن كتاباته بهدف النشر، بقدر ما كانت بهدف الدعوة للمسيحية.

تلقى أوريجانوس العديد من الطلبات لكي يقوم بالتدريس خارج مصر. أحدها جاء من حاكم عربي. ثم جاءته دعوة من جوليا مامّايا، أم الامبراطور ألكساندر سيفيروس، لزيارة أنطاكية، في صحبة حراسة عسكرية من الإسكندرية حتى أنطاكية. عند وصوله، تم استقباله بالقصر الامبراطوري. لكنه لم يمكث في أنطاكية مدة طويلة، عاد بعدها ثانية إلى الإسكندرية لكي يواصل عمله السابق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.