عبدالرزاق دحنون يكتب | في وداع ميخائيل غورباتشوف

0

في المثل: القشة قصمت ظهر البعير. والحقيقة أن القشة لم تكن هي التي قصمت ظهره، بل إن الأحمال الثقيلة هي التي قصمت ظهر البعير فسقط على الأرض من قشة زادت في حمله. صحيح أن البعير جبل المحامل ولكن للصبر حدود، وللحدود نهاية. وكان البعير سيسقط من حمله الثقيل. ونقول: طفح الكيل. وتكون قطرة واحدة زائدة عن الحد السبب في طفح هذا الكيل. وهناك وجهة نظر أخرى في تفسير هذا المثل العربي القديم تقول: إن الأمر الهين اليسير، الذي لا قيمة له، قد يؤدي إلى نتائج خطيرة وعواقب وخيمة، لأن البعير القوي الشديد، الذي يحمل على ظهره قدراً كبيراً من القش، يصل حداً قد تؤدي زيادة قشة واحدة فوق حمله، إلى كسر ظهره وهلاكه، ومن هنا يُضرب المثل لعدم الاستهانة بصغائر الأمور، التي قد تورد الإنسان مورد الهلاك. فهل كان ميخائيل غورباتشوف الأمين العام للحزب الشيوعي السوفييتي القشة التي قصمت ظهر دول المنظومة الاشتراكية؟

في النصف الثاني من العقد الثامن من القرن العشرين أصدر مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي عدداً خاصاً ضخماً هو الأضخم في الحجم من بين جميع أعداد مجلة “النهج” التي صدرت سابقاً ولاحقاً، وكأنه يشبه جمل المحامل. كان الموضوع الذي صدر من أجله تغطية ندوة فكرية حوارية اجتمعت في دمشق العاصمة السورية لبحث أمر “البريسترويكا” إعادة البناء في الاتحاد السوفييتي العظيم وتأثيرها على الأحزاب الشيوعية العربية وعلى التجربة الاشتراكية.

شارك في هذه الندوة الفكرية أكثر من مئة من المفكرين والباحثين والسياسيين العرب والذين خاضوا عميقاً في مياه نهر “البريسترويكا” الذي فاض واكتسح السدود وأغرقت مياهه الأرض وما عليها. عدد “النهج” الخاص هذا بقي في مكتبتي في مدينة إدلب، ومن الصعوبة بمكان استحضاره، وقد نسيت رقم العدد وتاريخ صدوره بعد أن شردتنا الحرب السورية الضروس التي طحنت رحاها البشر والشجر والحجر.
كان واضحاً اختلاف وجهات النظر في عدد مجلة النهج بين الباحثين والذي حمل عنوان “البريسترويكا عربياً” حيث انقسمت المواقف بين مؤيد متحمس ومعارض خجول لما يفعله ميخائيل غورباتشوف والذي صعد سلَّم السلطة السياسية درجة فوق درجة وكان صديقاً مقرباً من يوري أندروبوف رئيس مخابرات أمن الدولة السوفييتي، لذلك لا يمكن الشك على الاطلاق في مسيرته السياسية- وشك الرفيق خالد بكداش شتاء عام 1992في حواره مع الصحفي السوري عماد ندَّاف في كتاب “خالد بكداش يتحدث” بأن ميخائيل غورباتشوف كان عميلاً للمخابرات المركزية الأمريكية لا أساس له، بل فرية سخيفة لا أساس لها من الصَّحة.

من متابعتي اليومية من لحظة انتخابه أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي حتى لحظة تقديم استقالته وتفكك الجمهوريات السوفيتية كان مخلصاً لأفكاره، وبقي كذلك حتى وفاته مساء الثلاثاء 30/8/2022 في موسكو، فقد ولد في الثاني من مارس/آذار عام 1931
ميخائيل غورباتشوف آخر أمين عام للحزب الشيوعي السوفييتي رأى أن لابد من مفهومات جديدة في سياسة الاتحاد السوفييتي فاقترح مفهوم: التفكير السياسي الجديد، حين شعر أن هنالك طريقاً انتهى وأصبح مسدوداً، ولا بدّ من هجر القديم والدخول في العالم المعاصر. واعتمد التفكير المقترح آنذاك على نزع الأيديولوجيا من عناوين كثيرة، لا سيما في العلاقات الدولية، وكذلك هجر مفهوم صراع الطبقات وعزله من محور السياسات الدولية، إضافة إلى إعطاء الأولوية للمصالح الإنسانية الكونية، وزيادة التفاعل الإيجابي، سياسياً وليس عسكرياً، مع العالم.

أين الخطأ هنا؟ لا خطأ في هذه التفكير على ما أحسب. ولكن ميخائيل غورباتشوف جاء في نهاية سلسلة مفككة أصلاً من السياسات التي انتهجتها القيادات السوفيتية ومنظومة الدول الاشتراكية في مختلف الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية -سباق التسلح كان جريمة كونية لا تغتفر- فأوصلت دولهم إلى الانهيار. ومن وجهة نظري كان القائد الأسطوري يوسف ستالين أول من أسس لهذا الانهيار-وقد يغضب أنصار ستالين من هذا الرأي- ولكن الحقيقة هي هذه، ستالين ما كان له أن يكون قائداً سياسياً للدولة الاشتراكية الوليدة حتى قبل موت لينين، الفرق واسع بين الرجلين، لينين كان مفكراً كبيراً، كان حكيمًا.
يوسف ستالين كان لا يصلح لمركز الأمين العام لأنه بهذا المنصب يمتلك بين يديه سلطات واسعة لا حصر لها، وقد فطن لينين لذلك متأخراً، فاقترح إزاحته عن الأمانة العامة للحزب الشيوعي في نصِّ صريح، لكن الفأس كانت قد وقعت في الرأس، إنه القدر. وزاد الطين بلّة أن الطريقة التي أمسك من خلالها الدولة السوفييتية عطلت نمو بذرة الاشتراكية في المجتمع السوفييتي، فتعفنت، فجاءت “اشتراكية ستالين” مشوهة، هزيلة، غير قادرة على العيش فماتت بعد حين.

من يدافع عن سياسات ستالين ونهجه ويصنع من سيرة حياته “أيقونة” شيوعية، وبطلاً أسطورياً لا يُشق له غبار، له ذلك، وأنا لا أُعيبه في رأيه، ولكنني عدتُ إلى ثلاثية الكاتب والمؤرخ الروسي ديمتري فولكوغونوف “ستالين الواقع والاسطورة” الصادرة بترجمتها العربية عام 1995 وقد بلغت عدد صفحاتها الألف صفحة. حكى عن ستالين كما هو في الواقع من خلال نصوص ووثائق ومستندات حقيقية.
تقدَّم ستالين الصفوف، ولم يكن مؤهلاً لذلك، وقاد دولة اشتراكية ناشئة، فاختار سحق المعارضة التي كانت ستفيده لو تعاون معها في تقييم ما يفعله وتصويبه، فسكت الجميع عن أخطاء قاتلة في بناء الاشتراكية خوفاً، بل قُل رعباً، من بطش جهازه الأمني الذي يحكم البلاد والعباد بالحديد والنار، وفرض ما يريد من أفكار على المجتمع برمته “الماركسية-اللينينية-الستالينية” ووضع رسمه إلى جانب مفكرين كبار، فأمسى أب الوطن الاشتراكي فأوصل هذه الأب الأسرة والوطن الاشتراكي إلى الانهيار. وما حدث بعد موته مباشرة أن بكاه الصغير والكبير والمقمط في السرير على امتداد الوطن الاشتراكي. نعم كان معبوداً، ولكن انقلب رفاق الأمس على معبود الجماهير الذي مات، نعم، مات الصنم، فأزال رفاق الأمس أصنامه من الساحات والشوارع بعد حين، وكانوا أشد فتكاً بعضهم ببعض، وهو معلمهم الأول في هذا المقام، وهم تلامذته على كل حال، اصطفاهم ليكونوا طوع أمره. غربل ستالين الشعب السوفييتي فنخله الشعب بعد ذلك. ومن هنا المثل: من غربل الناس نخلوه.

جاء ميخائيل غورباتشوف في نهاية هذه السلسلة من القيادات ومن الإخفاقات والانهيارات ليصلح ما أفسده الدهر. أنتخب أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي وهو في الرابعة والخمسين من عمره بعد موت تشيرنينكو في ربيع عام 1985، الذي كان ميتاً حياً، وظل طوال حكمه القصير راقداً على فراش المرض. تشيرنينكو جاء بعد أندروبوف، الذي كان بدوره يحمل منذ البداية بذرة داء قاتل أودى بحياته بعد وقت قصير، كذلك فإن أندروبوف جاء بعد بريجينيف، الذي كان في السنوات الأخيرة من حكمه جثة تتظاهر بأنها حية، وكان واضحاً أن قواه البدنية والذهنية لا تسمح له أن يدير دولة، وليس معسكراً عالمياً فادح القوة عظيم المسؤوليات.
عندما تكون الأمور مدبرة -وقد كانت كذلك أيام ميخائيل غورباتشوف- لا يستطيع القائد السياسي مهما كان حكيماً ان يجعلها مقبلة. وهذه الملاحظة المهمة في العلوم السياسية أوردها المسعودي في “مروج الذهب ومعادن الجوهر” وهو كتاب في التاريخ وأحوال الأمم. وعندما درس عصر مروان بن محمد آخر خلفاء الدولة الأموية والذي جاء في نهاية سلسلة طويلة من الانهيارات في هذه الدولة والتي كانت من أكبر الامبراطوريات في التاريخ، ولكنها انهارت تحت ثقل مشكلاتها التي لم يستطع مروان بن محمد إيجاد الحلول لها رغم صبره وحكمته وفروسته ومثابرته. والمثل الأرمني يقول: يُلقي مجنونٌ حجراً في بئر فيعجز أربعون حكيماً عن إخراجه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.