د. رامي جلال يكتب | التنسيقية.. سبع عجاف وسبع سمان

0

في الذكرى السابعة لتأسيسها، يصعب على أى مراقب أن ينظر إلى السنوات السبع الماضية من عُمر “تنسقية شباب الأحزاب والسياسيين” دون أن يستدعي من الذاكرة قصة يوسف عليه السلام، ورؤياه العميقة عن “السبع العجاف والسبع السمان”. فهى كانت بحق سنوات عجاف، لا لأننا كنا بلا إنجاز، ولكن لأننا خضناها وسط سياقات سياسية واقتصادية واجتماعية قاسية، داخليًّا وخارجيًّا، لم تكن تُبشّر بفرص كثيرة للنمو، ولا تسمح بكثير من المساحات للتجريب أو الخطأ أو المغامرة. ومع ذلك، فقد شقّت التنسيقية طريقها وسط هذا الركام، وأثبتت حضورها، ورسّخت أقدامها، وتحولت من مجرد فكرة إلى رقم مهم فى معادلة السياسة المصرية.
فى مثل هذه الظروف، كان من الممكن أن تذوب التجربة كما ذابت غيرها، أو أن تُختزل فى بعض الشكليات، أو أن تتحول إلى مجرد حاضنة ترضيات. لكن التنسيقية اختارت الطريق الأصعب: أن تبقى، وأن تصمد، وأن تصوغ سرديتها بيدها لا بأيدى الآخرين. وهى تدرك، وتعلمت من مسيرتها، أن أى تنظيم سياسى لن يعيش ويُحترم ما لم يوثق سيرته، ويُدوّن أدبياته، ويفتح نوافذه للنقد والتقييم، لا للخطب والبطولات الزائفة. فكل سطر يُكتب الآن، ونحن فى لحظة الفعل، أصدق وأبقى من عشرات الكتب بعد الفناء.
هذه السنوات العجاف شهدت من التحديات ما يكفى لهزيمة أى كيان وليد: من ضغوطات الواقع إلى هواجس التسييس، ومن انقسامات المشهد الحزبى إلى أزمات التمثيل، ومن أشكال المحاصصة إلى تحديات الكفاءة، ومن معارك الداخل إلى اختبارات الخارج. ومع ذلك، فإن ما بقي هو الأثر الذى لا يمكن إنكاره: عشرات من الشخصيات خرجت من رحم التجربة نحو المجتمع، منهم من ذاب فى مشكلاته ليحاول حلّها، ومنهم من اكتفى بالمرور، لكنهم جميعًا حملوا معهم بذورًا زرعتها هذه التجربة.

التنسيقية ليست كيانًا ملائكيًّا ولا ائتلافًا شيطانيًّا؛ إنها قطاع عرضى من المجتمع المصرى، تعكس كل ما فيه من نور وظلال، من طموحات ومآزق، من قفزات وتعثّرات. وحدوث الأخطاء فيها لم يكن نقيصة، بل كان ضرورة، لأن عدم الخطأ وهمٌ لا يليق بالحياة. والعبرة دائمًا بالمراجعة، والتقييم، وتصحيح المسار. وأشهد أن هذا ما كانت تحاول التنسيقية فعله كلما استطاعت.

لقد كانت هناك مشكلات بنيوية، وعلى رأسها “المحاصصة”، بما تحمله من مفارقة مؤلمة: كيان يطمح للتجاوز، لكنه يُعيق أحيانًا بسبب قيود أعضائه. ولهذا، كانت الإضافة الجوهرية فى صيغة «شباب الأحزاب والسياسيين»، حيث لم تقتصر التجربة على من أتوا عبر بوابات حزبية، بل فتحت المجال أيضًا لـ”صيد الرؤوس” من المتميزين والفاعلين المستقلين، فى محاولة لكسر الجمود وإدخال دم جديد.

إن بقاء أى كيان، وليس التنسيقية وحدها، مرهون بقدرته على التجدد الداخلى، وتجاوز “الشِللية”، ومواجهة أى تمركز وهمى للقوة. وقد رأيت، من الداخل، أن التنسيقية سارت نحو هذا الخيار، وسعت باستمرار إلى إعادة التقييم، وتجديد الدماء، وتدريب الجميع، كل فى مجاله، ليصبح الفرد قيمة مضافة، لا عبئًا على الكل.

من بين أعمق التجليات أيضًا كان قرار إطلاق موقع مقالات الرأى، الذى توليت مهمة الإشراف عليه، فكان منبرًا مفتوحًا للعقول الجديدة، ومختبرًا حقيقيًّا لحرية الرأى وضبط المعايير. خلال أربع سنوات، نشرنا آلاف المقالات، ورفضنا فقط ما يخالف الأمانة أو المهنية، دون قمع أو ضجيج. تلك كانت تجربة صغيرة ضمن التجربة الكبرى، لكنها حملت نفس الروح: السعى للجدية وسط دوامة الاستسهال.

ولأن كل تجربة إنسانية لها عمر افتراضى، فقد تنتهى تجربة التنسيقية يومًا، لكننا نرجو، ونحاول، أن تظل آثارها ممتدة، وأن نحصد فى السنوات السبع المقبلة، ما زرعناه فى السنوات السبع الأولى. أن تكون السنوات القادمة سنوات “سمان”، لا لأن فيها رخاء فقط، بل لأن فيها حصادًا واعيًا، ونضجًا أعمق، وقدرة أكبر على التمييز بين ما يستحق البقاء، وما يجب أن يُترك وراءنا.

ربما لا يدرك كثيرون أن الكيانات، مهما بدت صلبة، لا تُبنى فقط بالخطط والتقارير والبيانات، بل تُبنى بما هو أعمق: بلحظات الأمل المشتركة، وبالخيبات التى نتقاسمها فى صمت، وبالضحكات التى ننثرها فى أروقة الاجتماعات الطويلة، وبالقلوب التى تتعب لكنها لم تتخل، وبالعيون التى لم تنم كثيرًا لأنها كانت تُؤمن، حتى فى العتمة، بأن شيئًا ما يستحق أن يُولد.

سبع سنوات من التعب والجدل والرهانات… من التصفيق والنقد والمراجعة… من الخوف على التجربة، والاعتزاز بها فى آنٍ معًا. واليوم، فى عامها السابع، لا أملك إلا أن أقول إننى كنت محظوظًا أن أكون شاهدًا على هذا الكيان، وأن أكون لبنة فيه، أو حتى ظلًّا على جداره.

أرجو أن تكون السنوات القادمة أكثر رحمة، وأعمق نضجًا، وأصدق حلمًا. أرجو أن نكبر بها، لا أن نكبر عليها. أن نعود إلى أنفسنا كلما ابتعدنا، وأن نظل، برغم كل شىء، مثل البذور التى اختارت أن تنبت حتى وسط الحجارة. وإن كتب الله لهذه التجربة أن تنتهى ذات يوم، فأرجو أن نغادرها وقد تركنا فيها شيئًا من نورنا، لا من ظلّنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.