في إحدى الندوات الثقافية، التي حضرتُها قبل أسبوع لمناقشة عمل أدبي، فوجئت بناقد أدبي أكاديمي له باع طويل (وأنا شخصيًا أشهد له بذلك) في نقد الأعمال الأدبية بكل أجناسها: رواية، قصة، قصيدة، مسرحية… يتوجّه الى كاتب العمل قائلا له: الأمر الذي أعيبه عليك بعملك هذا، أنه “عمل نظيف”، أي أنه خالٍ من الشتائم، ولا سيما أنك تتناول فيه قضية من صميم واقع مجتمعنا. وعندما اعترض الكاتب وآخرون غيره قائلين: لقد تضمّن العمل شتائمًا. قال لهم: يلعن أبوك ويلعن… هذه الشتائم، ناعمة، مهذبة، وكلمة “طز” على سبيل المثال، لا تعتبر شتيمة.
بالتأكيد أن معظمنا مُدرك أننا لا نعيش في المدينة الفاضلة، وأن مجتمعنا لا تغمره الفضيلة، لكن ليس معظمنا يدرك أن للأدب والفنون بكل أصنافها من رسم، وتمثيل وتصوير وإخراج… دوْرٌ بالتعبير عن هموم الناس ودورٌ بإظهار عيوب المجتمع، والحديث عن قضاياه ولا سيما تلك المسكوت عنها، والتي تُعتبر تابوهات لا يجب الاقتراب منها أو الحديث عنها، وعلى رأسها الثالوث: الدين والجنس والسياسة. لكن يبقى السؤال، الى أي مدى بإمكان المبدع أن يعبّر عن تلك المحظورات؟ والأهم، كيف يعبّر المبدع عنها؟ هل بأسلوبٍ مباشر وواضحٍ دون لفٍّ أو دوران؟ أم باللجوء الى المجاز أو الحكاية المَثَلية كما فعل الفيلسوف الهندي بيدبا في كتابه، والذي ترجمه ابن المقفع لاحقًا عن الفهلوية الى العربية تحت عنوان كليلة ودمنة؟
برأيي الشخصي، إن قمة الإبداع تكون عندما يكون المبدع حرًا وبشكل مطلق. غير أن الواقعيُّ منّا وغير الجاهل، يعرف أنه لا وجود للحرية المطلقة على كوكبنا الأزرق. ربّما، الذين نطلق عليهم صفة الجنون هم المتمتعون بأقصى حدود الحرية، حيث لا يَعقلهم ما يَعقل الأفراد غير المجانين. ومن هذا المنطلق، تبقى عملية الإبداع في كل المجالات نسبية. وبهذا أردت أن أقول بأن التطرُّق للمحظورات، وبالذات الجنس والدين، والحديث عنها، يبقى محكومًا للكثير من الضوابط. والآن قد يقول قارئ في نفسه: وما فائدة الكاتب أو الرسام أو المخرج والممثل؛ إذا لم يغامر كي يبدع، أو إذا لم يحدِث التغيير في مجتمعه وبيئته؟ صحيح؛ على هؤلاء في أحيان كثيرة أن يغامروا لإظهار إبداعهم، بل وتقع عليهم مسؤولية إحداث التغيير في ظواهر مجتمعية متخلِّفة، وأنماط تفكير ظلامية، وأنماط سلوكية مقيتة، وأن يَنْقدوا طرائق الحُكم والحكاّم … بشرط أن يكونوا مؤمنين برسالةٍ إنسانية، وبأن التغيير الذي يسعوْن لإحداثه سيكون لصالح الناس عامة، لا أن يخوضوا في المحظور فقط لإرضاء فئة ما، أو لتحقيق مأربٍ شخصي أو فئوي. ثم أن الخوض في المحظور يجب أن يسبقه علم وثقافةٍ واسعة، مع إدراك أن إحداث التغيير يجب أن يكون تدريجيًا. فالمبدع سواء أكان أديبًا أو رسامًا أو مخرجًا سينمائيًا، أو غير ذلك؛ عليه ألا يتصنَّع الخوض في المحظورات. فإقحام موضوع الجنس على سبيل المثال دون أن يكون ذلك مناسبا لسياق العمل، وإنما فقط لكي يثير غرائز المتلقي، أو ليكون العمل جاذبا وبهدف تحقيق النجاح، هو أمر مرفوض بالنسبة لي، على الأقل.
إن الكتابة عن الجنس في الروايات وغيرها من الأجناس الأدبية ليس جديدًا؛ وإظهار الإيحاءات والمشاهد الجنسية في الأفلام السينمائية ليس جديدًا أيضًا؛ لكن الجديد هو أن الموضوع أصبح “تقليعة”، يرتكز كل عمل “إبداعي” على وجوده؛ حيث أصبح معظم الروائيين والمخرجين والممثلين والرسامين وغيرهم، يقحمونه عنوة في أعمالهم حتى عندما لا يكون ذلك ضرورة أو مناسبًا أو متماشيًا مع سياق العمل، وكأن الروائي أو المخرج السينمائي لا يرى قيمة لعمله، الا إذا زيّنه بإيحاءات جنسية، أو ضمّنه بشتائم ومشاهد جنسية. أو لربما، ظن هؤلاء الروائيون والسينمائيون بأنهم بفعلهم هذا أصبحوا أبطالا وثوريين، فها هم يقتحمون المحظور، ويكسرون الأبواب المغلقة. وأسوق لكم هنا على سبيل المثال لا الحصر، الفيلم الأخير لابن بلدي والذي أثار الجدل لدى مشاهديه وربما غير مشاهديه. لقد افتتح المخرج ابن بلدي فيلمه بمشهد عُريّ. هذا المشهد برأيي لا يدّل على جرأته، ولا على بطولته في خوض المحظور؛ فلو كان الأمر كذلك لما جعل من فيلمه نسختين: واحدة مع مشهد العريّ هذا لعرضه في أمريكا ودول الغرب، وأخرى قد تمّ حذف مشهد العريّ منها لعرضها في الدول العربية.
بالرغم من أنني لست ناقدة سينمائية، ولا أدّعي دقة معرفتي بهذا المجال، الا أنني كمشاهدة شاهدت الفيلم، أصرّح بأن مشهد العريّ قد تم إقحامه عنوة للفيلم، بالوقت الذي كان بالإمكان الاستغناء عنه أو تجاوزه، ويوصل المخرج الهدف منه دون أن يتأثر الفيلم. ودليل على ذلك أنه قد حذفه من النسخة المعدّة لعرضها في الدول العربية. هذا المشهد قد أثار التساؤل عندي قبل أن يثير حفيظتي، وذكّرني بجملةٍ قالتها سيدة الشاشة العربية فاتن حمامة في إحدى المقابلات معها حيث قالت: “أهتم بأن لا يشعر أفراد العائلة المصرية وعائلتي بالحرج عندما يشاهدون أفلامي”. فهل سألت البطلة ابنة بلدي، وكذلك مَن قام بدور الموديل ليتصور معها وهما عاريان تماما: ماذا سيقول ابني، أو ابنتي، أو أمي، أو أخي، أو جاري… عندما يشاهدونني بالفيلم وأنا عارية/ عارٍ تماما؟
لقد أثار مشهد العريّ حفيظتي أيضًا، لأنه حوّل تركيز المشاهدين عن موضوع الفيلم (ولا أريد هنا التطرق إليه، لأنني لست بصدد تناول الفيلم بالنقد بشكل كامل) وجعلهم يتجادلون حول مشهد مقزز، فاشل، وجوده زائد في الفيلم، متناسين أن الفيلم لم ينصف النضال الفلسطيني، بل لا علاقة له بذلك.
وأعود الى الإبداع وطَرق المحظورات، والحديث عن المسكوت عنه، وأقول: عندما يريد كاتب أي جنس من الكتابة، وكذلك الرسام والنحّات والمخرج السينمائي وغيرهم أن يحلّقوا بجنونهم ليتحفونا بإبداعاتهم، فليفعلوا ذلك، شرط أن تظل أرجلهم ملامسة لسطح الأرض، حتى يراهم البشر غير المجانين. وعندما يريد الروائي والأديب بأن يقدم لقرائه إبداعه، فليفعل ذلك بمخاطبة عقله، لا بإثارة غرائزه. فلا يُعقل أن تكون رواية تتحدث عن الحرب مكونة من خمسة فصول، ويُخصص منها أربعة فصول للحديث عن المسكوت عنه، بالجنس. فهناك إبداع، وهناك أدب، وهناك قلة أدب، ويظلّ كل شيء نسبيًا.