عبدالغني الحايس يكتب | محنة دستور 1923

0 155

مرت في 19 إبريل الماضي مائة عام على دستور 1923، ذاك الدستور الذي كان نتيجة كفاح ونضال عظيمين للشعب المصري وزعماء الحركة الوطنية، فلولا الضغط المستمر ما كان تصريح 28 فبراير 1922، والذي بموجبه تم إلغاء الحماية البريطانية على مصر، وخلعت عنها عباءة التبعية للسلطنة العثمانية، وأصبحت دولة مستقلة ذات سيادة.
لذا كان من الضروري وضع دستور جديد للبلاد، لذلك يعتبر دستور 1923 أول دستور حقيقي لمصر يوضح طريقة الحكم ويؤصل العلاقة ما بين الحاكم والمحكومين، ولقد جاءت كثير من المواد تدعم الدولة الحديثة العصرية التي تدعم الحريات مثل الحرية الشخصية وحرية الاعتقاد والفكر والرأي والاجتماعات وحرية الصحافة، ورسخ قواعد الديمقراطية بمنع التميز والمساوة بين كل المصريين، وسمح بحرية إقامة الشعائر، وإلزامية التعليم المجاني في المرحلة الأولى، وحرية تقليد الوظائف لكل أبناء الوطن، وجعل الأمة مصدر السلطات، وقلص سلطات الملك، وأعطي الهيمنة إلى مجلس الوزراء.
بما أنه خرج رغما عن أنف الملك فقد سعي عن طريق حكومة إسماعيل صدقي باشا إلى إلغائه ووضع دستور فضفاض يعطي للملك صلاحيات كبيرة سمي بدستور صدقي أو دستور 1930، وقد ناهض حزب الوفد بقيادة مصطفي النحاس وعموم المصريين الذي خرجوا في مظاهرات عمت القطر المصري كله ومعهم تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات وعلى مدار سنوات يطالبون بإعاده دستور 1923 حتى رضخ الملك أحمد فؤاد، وعاد دستور 1923 بموجب الأمر الملكي رقم 142 لسنة 1935، وظل معمولا به حتى كانت حركة الضباط الأحرار، وقيام مجلس قيادة الثورة بإلغائه نهائيا في 10 ديسمبر 1952.
يطلق على تلك الفترة من 1923 إلى 1952 درة العهد الليبرالى، وأهم الفترات في تاريخ الأحزاب السياسية، ورأي البعض أن سقوط دستور 1923 هو نهاية العهد الليبرالي ليس في مصر وحدها بل في معظم أنحاء الوطن العربي.
لا شك أنه كان هناك تنافس شديد بين أحزاب تلك الفترة، وصل إلى حد التجريح والخروج عن النقد البناء، فكانوا يمتدحون الديمقراطية والشعب إن وصلوا إلى السلطة ويصفونه بالجاهل إن خذلهم ولم يخترهم.
كان لطفي السيد زعيم حزب الأمة يقول: إن مصر ليست مؤهلة لحكم ديمقراطي على النسق الأوروبى. وعبدالعزيز باشا فهمي رغم أنه أحد أعضاء لجنة الثلاثين التي وضعت الدستور وصفه: بأنه ثوب فضفاض ويعطي الشعب الجاهل حريات يسئ استخدامها. أما صدقي باشا الذي ألغي الدستور فقال: إن الشعب قطيع من الخراف تجمعه صافرة وتفرقه عصا.
لذا حارب الوفد والوفديين وكأنه يثأر لنجاحهم أو التفاف الشعب حولهم وسعي إلى فصلهم من وظائفهم ومطاردتهم لمطالبتهم وتحريضهم للشعب لعودة دستور 1923.
جاء سليمان حافظ بعد نجاح حركة الضباط الأحرار وهو عضو الحزب الوطني القديم وما يضمره في نفسه أيضا للوفد والوفديين هو صاحب فكرة إلغاء الدستور، وأخذ يعدد كثيرا من الانتقادات، منها أنه لا يجيز محاكمة الوزراء وأن محاكمتهم تتم أمام مجلس النواب وبتشكيل لجنة خاصة، حتى تم إلغاء العمل به وإصدار إعلان دستوري من 11 مادة تحتوي على مبادئ دستورية عامة.
وكان يري رجال يوليو أن الأحزاب هي أساس الفساد، وأن الملك ذاته كان يعبث بالدستور، وكان مطية لأهوائه، وأنها كانت من عوامل الفساد الكبري ومصدرا من مصادر الانحلال الأخلاقي والانبطاح لرغبات المستعمر، وأنها لم تقدم شيئا للشعب المقهور، بينما هم يكتنزون كل المكاسب ويستولون على خيرات البلاد، بل ويستعبدون العباد، حتى تم إلغاء الأحزاب السياسية في الفترة الناصرية وخرجت عدة تجارب مختلفة منها، هيئة التحرير ثم الاتحاد القومي ثم الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعى.
رغم تشكيلهم لجنة الخمسين لوضع دستور للبلاد فإنهم لم تروق لهم فكرة وجود دستور حتى يتم استئصال كل أذرع الفساد وكل المعارضين للثورة والعمل على تدعيم أركانها واتخذوا من الرضا الشعبي عاملا مهما للتجرؤ على انتهاء كل الحقوق والحريات بدعوي تأمين الثورة، لذا تم تجاهل الدستور الذي أخرجته لجنة الخمسين.
أعلن الرئيس جمال عبدالناصر في خطاب له أن برلمان الثورة سيكون دون أحزاب، وإنما سيتم تشكيله من العمال والفلاحين والطوائف المهنية ليعبر بشكل حقيقي عن الشعب، وأعطي وقتها الحرية لزعماء الاتحاد القومي في استبعاد المعارضين من قوائم الترشح لمجلس الأمة.
قد ساعد رجال الصحافة الموالون للثورة على إيضاح الفكرة التي يرمي إليها عبدالناصر، لذلك انتقد إحسان عبدالقدوس الفترة من 1924 إلى 1952 أنها مكنت الرأسمالية والاستعمار من السيطرة على الدولة، واقترح على عبدالناصر أن يكون البرلمان دون أحزاب واعتبر ذلك إحدي تجارب الديمقراطية الجديدة.
أما موسي صبري ففضل أن يكون النظام جمهوري رئاسي وليس برلمانيا، وأن برلمان دون أحزاب من المحتمل في المستقبل أن يتحول إلى أحزاب جديدة. وجلال الدين الحمامصي كان يري في التجربة البرلمانية الديمقراطية أنها منتهي الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي.
هاجم مصطفي أمين الأحزاب القديمة، وقال إن برلمانا من الأحرار خير من برلمان من العبيد التي تتحكم فيهم الحزبية والرأسمالية والاستعمار.
وهكذا هناك كثير من الأقوال التي دعمت فكرة عدم وجود تيارات حزبية مختلفة الفكر والأيديولوجيات، واستمر الصراع طوال الفترة الناصرية حتى جاء السادات وشكل المنابر السياسية، وتلك حكاية أخري طويلة سيتم سردها لاحقا في مقال تاريخ الأحزاب السياسية… ولكن تم غلق ملف دستور 1923 وانتهاء حقبة اعتبرها البعض درة التجارب السياسية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.