عبدالله تركماني يكتب | إدوارد سعيد ونتائج الهوية المركّبة (2)

0 321

كتب ” الاستشراق ” متهماً مثقف السلطة ومتهماً أكثر السلطة التي تقولب المثقفين، وكتب ” الثقافة والإمبريالية “، مدافعا عن ” المثقف الآخر “، الذي يعيش في ” المركز ” وينصر الأطراف. كان، في الحالين، يتمرد على الثقافة الأكاديمية الطقوسية، التي تحوّل الثقافة إلى احتكار فقير، تتبادله نخبة ضيقة أقرب إلى عالم الكهنة، بقدر ما كان يتمرد على السلطة السياسية التي تحتكر المثقفين، وتفصل بينهم وبين القضايا العامة.
ويعيدنا هذا المسار الفكري لعمل إدوارد سعيد، وإنجازه على صعيد البحث وتاريخ الأفكار، إلى السؤال الأساس لوظيفة المثقف وموقفه مما يدور في هذا العالم. لقد رفض سعيد أن يتقوقع في بيئته الأكاديمية أستاذاً مرموقا للأدب الإنكليزي في الجامعات الأميركية، وفضّل، على رغم ما كلفه ذلك على صعيد المكانة الأكاديمية والسلامة الجسدية، أن يكون منافحاً عن القضية الفلسطينية في قلعة الغرب المعادية لحقوق الفلسطينيين، وأن يفكك المفاهيم الزائفة المصطنعة التي بناها الغرب خلال قرون من الزمن عن نفسه وعن الآخر. ويمكن أن نعثر في كتبه الكثيرة على الباعث الشخصي لمسيرته الفكرية والثقافية، على جذوره كمثقف منفي لا منتمٍ، مستقل يقول الحقيقة للسلطة، أيا كانت هذه السلطة فكرية أو سياسية.
أما محطة النقد الأدبي التي وصل من خلالها إلى قمة شاهقة تشير إليها الدوائر العلمية المرموقة بالبنان، يقول جيم ميرود: لم يستطع أحد ممن يكتبون عن النظرية الأدبية والثقافية اليوم تفادي تناول قبضة سعيد، وهذا المدى هو عن حق مدى شخص هاوٍ، مما يعني أنّ العمل الشاق المؤسس على المعرفة لا يعوقه شيء بالنسبة لفرد شديد الاهتمام بعمله. أما الفوائض العاطفية المحتملة لهذا الاهتمام فهي تركز هي ومداها خارج نطاق مجرد المهنية، وفي هذا الصدد فإنّ مشروعه كناقد هو توسيع مجال البحث الذي يحيط بالنصوص، وبالافتراضات الفكرية السائدة وتعمق تحليل التعبيرات والنصوص والمواقف، بالإضافة إلى السياقات التي تدعمها بحيث يكتسب نسق الفكر في أكثر حالاته حدة صبغة حادة الذكاء والرهافة. ويضيف ميرود قائلاً: إن كان عمل سعيد الفكري هو مشقة من أجل الحب والعذاب والكياسة والتروي والكبرياء والقلق والالتزام والأمل، وأعتقد أنّ كل مشهده اللفظي يعرض هذه الضغوط، فقد أنتج أيضاً نتائج ملموسة من النوع الذي يتطلع إلى إنتاجه جامعات ومفكرون قلائل، وليس بالإمكان بعد تقدير قيمتها الرائعة، بيد أنها ستحمل بين مآثرها، وإلى زمن لا محدود، نموذج سعيد الذي يتعذر إطفاءه، أي نموذج رفض اليقينيات ورفض الدوغما.
صورة أخرى لسعيد الناقد نراها في بحث تيري كوتشران الذي يقول: ربما كان سعيد أكثر من أي ناقد آخر في النصف الأخير من القرن العشرين، هو من عالج – بشكل منتظم – قضايا تؤكد على تداخل الاهتمامات الأدبية والمصالح السياسية، وفي حالة سعيد ردد هذا التوجه أو هذه الضرورة في مجادلات وردود أفعال لا تنتهي عبر النطاق السياسي والأدبي من جميع التوجهات، الأمر الذي بدا ظاهرياً أنه يصدق على تأكيده على أنّ الأدب والسياسة تربطهما روابط لا تنفصم عراها. وبشكل أكثر تحديداً فإنّ أكثر إسهامات سعيد عمقاً، في الفكر المعاصر، هو أنه بذل غاية الجهد حتى نجح في البرهان على أنه لا يمكن فقط تطبيق آليات الإدراك الأدبي المفاهيمية على مجالات وإنتاجات أدبية أخرى.
لقد نفى إدوارد سعيد أن يكون هناك صراع بين الحضارات، وأكد، اعتماداً على تجربته المعرفية الخاصة، أنّ الثقافات والحضارات تتلاقح، وتتغذى من بعضها البعض. وتطرق إلى المأساة الفلسطينية، وقال إنه كان ولا يزال يعتقد أنّ التعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي ممكن، وأنّ العمل في سبيل تحقيق ذلك كفيل بأن يجنّب الشعبين ومنطقة الشرق الأوسط المزيد من الفواجع والآلام والدموع. وانتقد العرب والفلسطينيين الذين يعتبرون ” الهولوكست ” وما تعرض له اليهود خلال الحقبة النازية ” خرافة صهيونية “، وقال: إنّ التلذذ بآلام الآخرين لن يفيد الفلسطينيين ولا العرب في شيء، بل هو يشوّه صورتهم أمام العالم.
لقد وصل إدوارد سعيد إلى السياسة عن طريق المعرفة، ووصل إلى تسييس المعرفة عن طريق الأخلاق. وهذا المتكأ، الذي يختلف عن غيره، انطق فيه صوتاً أخلاقياً عالياً، ينطوي على إنسانية عالية وحس بالمسؤولية يقترب من الفرادة. إنه استهل حياته ناقداً أدبياً وباحثاً في شؤون الاستشراق والحضارة، ودخل الفكر السياسي من باب الفلسفة والفكر والثقافة وكان مفكراً سياسياً لامعاً، دأبه طرح الأسئلة والسعي الحثيث للإجابة عليها.
المشروع الحضاري العربي
كان في الغرب ” مهجرياً ” من نوع آخر ومختلف، متعب كالجسر بين شرق غامض وغرب بلا قلب، يدافع عن القضية العربية بقيم الحرية والعقلانية والثقافة الأصيلة، وفي شجاعة أدبية مميزة. كتب مرة يقول أنه ” عربي أدت ثقافته الغربية، ويا لسخرية الأمر، إلى توكيد أصوله العربية، وأنّ تلك الثقافة إذ تلقي ظلال الشك على الفكرة القائلة بالهوية الأحادية، تفتح الآفاق الرحبة أمام الحوار بين الثقافات ” (ص 10 من ” خارج المكان “).
والواقع أنّ إدوارد سعيد فتح الباب للكثير من المفاهيم لأن تدخل في نسيج الثقافة العربية والعالمية وتعابيرها ومصطلحاتها، ودائماً كان يكتب في خط النقد والحوار والمراجعة والمساءلة، وفي مساحة البحث عن الحرية.
لكن هناك فرقاً بين معرفة بالشعوب الأخرى، والتواريخ تقوم على الفهم والتعاطف والدراسة المقصودة لذاتها، والمعرفة التي تأتي جزءاً من حملة شاملة تهدف إلى إثبات الذات. إذ هناك، في التحليل النهائي، تباين عميق بين إرادة الفهم خدمة للتعايش وتوسيع الأفق، وإرادته كوسيلة للسيطرة.
كيف ترى ملامح مشروع حضاري عربي؟ (آخر حديث صحافي أدلى به لصحيفة ” الرأي العام ” الكويتية في 27 سبتمبر/أيلول 2003).
– نحن نعيش في فترة زمنية صعبة جداً، وهناك تهديد للمشروع الحضاري العربي، وللأسف يساهم العرب في هذا التهديد، يوجد نوع من الانتحارية العربية التي تنعكس في السياسة العربية وهي لا تؤدي إلى مستقبل إيجابي، ويوجد تغييب في المفاهيم العربية، وأنا شخصياً أعاني من ذلك في الغرب، أي نحن غير معنيين في الحوار العالمي أو المصير البشري، وأعتقد بأننا نستثني أنفسنا وغير مستعدين للدخول في الحوار العام الدائر في الكرة الأرضية، وهذا شيء مؤسف، الحكومات العربية ليس لديها فكرة عن الحضارة أو التربية أو التعليم، وعلينا كعرب في المهجر أن نتعاون ولكن ليس بطريقة تربطنا بالحنين وبالإخلاص المحض السخيف إلى الأنظمة والأحزاب، بل في صنع المستقبل الحضاري كجزء من المشاريع، هناك ندوات عالمية كثيرة، لكن الدور العربي مفقود أو منخفض، ومن الضرورة الدخول في المشاريع الحضارية الكبيرة ونعطي بطريقة متواصلة تمثيلاً آخر للصوت العربي أو وجود آخر يختلف عن الماضي.
وهكذا، سيبقى فكر إدوارد سعيد شعلة تنير الدرب الفلسطيني والعربي والعالمي، درب الذين يفكرون ويحاولون بناء عالم لا مكان فيه للإرهاب، ولا للعصابات الاحتلالية العنصرية التي تعتبر إسرائيل خير مثال عليها. وسيبقى دور إدوارد سعيد حياً في كل فلسطيني وطني يعي ويعرف ويعلم خطورة ما تلا اتفاقيات أوسلو وأخواتها من مآسي وويلات عصفت بالفلسطينيين وأضرت بقضيتهم الوطنية.
لن يغيب إدوارد سعيد، فالذين يغيبون هم الذين يمثلون الماضي حتى وهم أحياء، أما إدوارد فيمثل المستقبل، المستقبل الذي نحلم به لنا ولأولادنا ولأحفادنا ولوطننا المكتوي بآلام تبدو كأنها لا تنتهي. لن يغيب إدوارد لأنه حليف بفكره وإبداعه ونموذج حياته للمستقبل، ولحب الحياة.
إدوارد سعيد، سيظل في النهاية، حاضراً بحضور وعيه الثقافي وانفتاحه على العالم، فهو الفلسطيني الذي حمل فلسطين في داخله كهوية وذكرى، لم يكن قادراً على التكيّف أو الاعتراف بالانتماء للمكان، وظل كما وصف نفسه، رجلاً، وباحثاً غير قادر على الاعتراف بعلاقته بالمكان الذي يعيش فيه ويتحرك من خلاله.
بقي علينا أن نسير على دربه، وأن نستلهم انفتاحه الفكري الواسع، لكي نخرج من هذه الورطة الجهنمية التي وقعنا فيها منذ هزيمة 5 حزيران/يونيو 1967 على الأقل. نعم إنّ صوت إدوارد سعيد سوف ينقصنا في السنوات القادمة، لأنه كان أحد المثقفين العرب القلائل الذين وصلوا إلى مرحلة الكونية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.