فهد المضحكي يكتب | العلاقة بين الثقافة والتعليم (1 – 2)

0 258

قبل عقود قليلة، كانت أنظمة التعليم في بلادنا العربية تحمل عنوان (وزارة المعارف) وكان جُل النشاطات الثقافية يخرج من المدارس والجامعات، كما كان أغلب قادة التربويين هم في ذات الوقت من قيادات الفكر والثقافة في مجتمعاتهم، والأمثلة عديدة، فعلي مبارك وطه حسين ومحمد عبده في مصر، وشبلي شميل وسليم البستاني في لبنان… وفي سوريا، د.شاكر مصطفي عبدالله عبدالدايم، كانوا رجال تربية وتعليم وكانوا قادة فكر وإبداع ثم جد زمان دوله الاستقلال وقيام الحكومات الوطنية على امتداد رقعة الدول العربية وطرحت مشروعات التنمية بما حملته من تركيز على المحتوى المهني المباشر للعملية التعليمية، وتفتت وزارة المعارف الواحدة إلى عدد من الوزارات المتخصصة فأصبح لدينا وزارات للتربية وأخرى للتعليم العالي، بل أحيانًا للتعليم المهني، وكلها تركز برامجها ومناهجها على تكثيف المحتوى (التعليمي) أو التقني في التخصصات المختلفة، وتخفيف – أو بالأحرى تهميش – المحتوى الثقافي لتلك البرامج والمناهج ونتج عن ذلك إقصاء لحصيلة القيم الإنسانية العامة، وتقلصت النشاطات الدائرة في المدارس والجامعات، بعد أن تصوّرنا أن السعي في دروب التنمية يتطلب مزيدًا من الاقتصار على الجانب المهني للعملية التعليمية، ومن ثم صياغة وممارسة السعي إلى تحقيق الأهداف التربوية صياغة وممارسة فنية مهنية محضة لكفالة (المخرجات) المطلوبة لسوق العمل، وتضاءل اهتمامنا بدور آخر للتعليم أبعد أثرًا في (التنمية البشرية). هذا الرأي للدكتور سليمان العسكري نُشر في مجلة «العربي» الكويتية الصادرة عام 1990. حقيقة هذا الرأي مضى عليه أكثر من عقدين من الزمن ربما لا يتفق مع بعض الجوانب الايجابية التي شهدتها العلاقة بين الثقافة والتعليم خلال السنوات الأخيرة، ولكن ما أشار إليه في غاية من الأهمية وهو ان الهدف الأساسي من العملية التربوية هو خلق إنسان لا يجيد الحفظ والتلقي بقدر ما ينمي لديه فكرًا نقديًا حرًا قادرًا على أن يواجه العصر وهو يحمل تراثه وحضارته قادرًا على التفاعل مع الحضارات الأخري. وبالتالي قادرًا على بناء مركب ثقافي معاصر يمكنه التآلف بين ما هو ماض وما هو معاصر. وتزداد صعوبة تحقق هذا الهدف في وجه ذلك التطور الهائل الذي نشهده بشقيه التكنلوجي والمعرفي. إن العملية التربوية كانت ولاتزال هي السبيل الوحيد للاستفادة من هذا التطور الجديد من أجل الإفادة منها تقنيًا وتدعيم الثقافة العربية ضد الجانب السلبي للعولمة. وكما يقول العسكري، لقد بدأنا منذ سنوات عديدة نحصد نتائج هذا الفصل بين الثقافة والتعليم في برامج النشاط التربوي بالمدارس والجامعات، من خلال (مخرجات) تعليمنا العام والجامعي. إذ أصبح لدينا خريجون يحملون مؤهلات جامعية (وما بعد الجامعية) في مختلف التخصصات المهنية، بعيدون كثيرًا عن الفهم الواعي والفاعل لمجمل مجريات الحياة والمجتمع. لقد بدأنا نشعر – ضمن ما استشعرناه من أوجه فشل منجزات التنمية وطرائق تخطيطها وإدارتها – بأن لدينا – فضلًا عن أمية القراءة والكتابة – أمية أخرى أفدح أثرًا هي أمية الثقافة، الثقافة التي (تشكل كل تفكيرنا وخيالنا وسلوكنا، فهي أداة لنقل السلوك ومصدر دينامي للتغيير والإبداع والحرية ولإحياء فرص الابتكار. فالثقافة بالنسبة للجماعات والمجتمعات مصدر للطاقة والإلهام والتفويض وإدراك للتنوع وأعترف به وفي ظل هذه (الأمية الثقافية) أصبح لدينا خريج لا يملك القدرة الكافية على التكيف وعلى ممارسة دوره الإيجابي المنشود كعنصر تنموي في مجتمعه، أصبح يتوافر لمجتمعاتنا، كل عام، مجموعة من المتخصصين في الفروع المختلفة للعلوم والمهن (يتميزون) بتخلف وعيهم الثقافي والاجتماعي.
وإذا كان هناك أسباب عديدة للضعف الواضح لقدرات مخرجاتنا التعليمية – الطابع البيروقراطي لإدارة العملية التعليمية، جمود المناهج التعليمية، أساليب التدريس والتقويم القائمة على الحفظ والتلقين وعدم الخروج عن النص – فإن مقدمة تلك الأسباب أن نظام التعليم منذ عقود في أغلب الدول العربية قد أبعد الثقافة بكل فروعها عن المدرسة والمعهد والجامعة. ومن ثم تراكم قطاع واسع من المتعلمين كخريجين أصبحوا بؤرة لإعادة إنتاج تخلفنا الثقافي. وقد أصبحنا نجد أنفسنا، بعد عشرات السنين من خطط التنمية وممارسة الإصلاح التربوي – والتي صورنا لأنفسنا أنها متقدمة بينما شكلت في حقيقتها نقلًا آليًا وتجزيئيًا لممارسات إصلاح تربوي لبلدان وبيئات أخرى تختلف من الثقافة ونسبة التطور عن واقع مجتمعاتنا العربية – نزداد تخلفًا عن إيقاع الحياة ومتغيراتها من حولنا، في كل النواحي. فالسيادة انعقدت بشكل متزايد لعدم الانضباط، والاستخفاف بالقوانين، وتفكك العلاقات الاجتماعية، وهشاشة بناء المجتمع المدني، وتنامي النزاعات القبلية والطائفية والعرقية. حتى المجتمعات العربية التي توافرت فيها أحزاب علنية أصبحت بعض هذه الاحزاب تمارس الاختلاف بشراسة متزايدة وتتبنى ممارسات أكثر تعسفًا في عدم قبول كل منها للآخر. ولاريب في أن في مقدمة أسباب ذلك كله هذا النهج السائد في إبعاد التنمية الثقافية عن بناء الإنسان في مراحل تعليمه الأساسي، وهو ما أدى أيضا، بالمقابل إلى المزيد من تدهور الوضع الثقافي بعامة في عالمنا العربي، إذ تراجع الكتاب ودوره في البناء التربوي، وضاقت الحرية أمام المسرح والموسيقى والسينما والفنون الأخرى كلها مع زيادة السكان وتنامي أعداد الجماهير المتلقية التي تربطها بالثقافة وإبداعاتها وتأثيراتها الحقة أوهى الصلات. فنمت في أوساطها بالمقابل قيم التقليد الأجوف لكل ما هو أجنبي وتسيّدت عادات الارتجال والخفة واللامبالاة في مواجهة أمور الحياة ومتطلباتها الآنية والمستقبلية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.