فوزي حامد الهيتي يكتب | ابن رشد واشكالية المعقول والمنقول

0

ارتقى ابن رشد في تناوله لهذه الإشكالية إلى مستوى المقال المستقل ، فخصها بثلاث كتب مستقلة تعد من أبرز نتاجه الفلسفي هي : كتاب فصل المقال وتقرير ما بين الحكمة والشريعة من الإتصال وكتاب الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة وكتاب تهافت التهافت.
وقارئ النصوص الرشدية الثلاثة أعلاه يخرج بملاحظات مهمة يمكن إيجازها بالآتي :
1- أن هذه النصوص هي خطاب عام موجه للعامة وجمهور المتكلمين والفقهاء بالدرجة الأساس، معتمداً في عرض آرائه على المصطلح والمنهج الفقهي والكلامي . يحاول أن يقرر فيها جملة من المسائل الخلافية المهمة أهمها وجوب النظر العقلي والفلسفي وجوباً كفائياً أي لمن يمتلك شروط النظر العقلي وعارفاً بالمنطق وأدواته في القياس والبرهان.
2- أن إبن رشد لم يصرح بآراء تخالف ما ذكره في كتبه الفلسفية الخاصة ولا في شروحه لمتن أرسطو. كما أنه إلتزم بمنهج صارم لم يخرقه قط، من قواعده أن يكون الخطاب بحسب مستوى المخاطبين وأن الحقيقة واحدة واختلاف الناس في إدراكها هو بالتفصيل والدرجة وليس بالنوع. مثلا ما يدركه الإنسان البسيط من شرط النظافة أنها ضرورية ومن شروط السلامة ولكن ما يدركة الطبيب هو لماذا هي ضرورية. الفارق هنا بين المعرفتين هو بالدرجة والتفصيل وليس بالنوع.
3- أن لغة الخطاب الرشدي هنا هي لغة هجومية وليست لغة إسترضاء أو طلب مودة وسماح رجال الدين ومن يضع نفسه حارساً للعقيدة.
4- أن الغرض المعلن من تأليف هذه الكتب الثلاثة هو إصلاح فهم الناس للشريعة بعد أن أفسده المتكلمون بتأويلاتهم المضللة الفاسدة التي كانت في إعتقاده سبباً أساسيا في إختلاف الناس وانقسامهم إلى فرق وطوائف يكفّر بعضها الآخر حتى مزقت الأمة وأضعفتها ، مما جعل الأمم الأخرى تتكالب عليها وصارت تشن الحروب وتحتل الأراضي مثل الحملات الأوربية في زمانه على بلاد المشرق وتدخلاتهم بدول الطوائف في المغرب.
تؤكد لنا هذه الملاحظات الأربع وعي إبن رشد بعمق هذه الإشكالية وتجذرها في الثقافة العربية الإسلامية ومدى التوظيف الآيولوجي لها من قبل أطراف فكرية عديدة فضلاً عن خطأ بعض الفلاسفة مثل الغزالي في التأسيس المعرفي لها مما نتج عن فعله هذا ما لم يكن يقصده الغزالي ولا يتمناه وهذا واضح في قول ابن رشد في مقدمة كتابه ” مناهج الأدلة ” حيث يقول ( وأول من غير هذا الدواء هم الخوارج ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء بعدهم ابو حامد الغزالي فطمًّ الوادي على القرى وذلك أنه صرح بالحكمة كلها للجمهور وبآراء الحكماء على ما أداه عليه فهمه .. ابن رشد ، الكشف عن مناهد الإدلة ص 150-151) . وخطأ الغزالي وفقاً لإبن رشد أنه صرح بمسائل فلسفية دقيقة للجمهور وهو غير مؤهل لإدراكها مما ينتج عنه انقسام الناس إما لذم الفلسفة وتكفير المشتغلين بها وإما لتأويل الشرع وصرفه إلى الحكمة وهذا كله خطأ في نظره. ( ابن رشد ، الكشف عن مناهج الإدلة المصدر نفسه ص 151) .
يبدأ ابن رشد معالجته لهذه المسألة بالإجابة على سؤال مفاده هل النظر العقلي والفلسفة والمنطق مأمور بها شرعاً أم محظور؟ ( ابن رشد فصل المقال ص 37 ) . ويجيب عليه بعد تعريفه لمفهوم الفلسفة وهي ( النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع ) أي من جهة ما هي مصنوعات تدل على وجود الصانع وكلما كانت المعرفة بها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم وأفضل. والشرع بحسب ابن رشد حث على النظر في الموجودات ومعرفتها في الكثير من نصوص القرءآن الكريم ويسوق ابن رشد جملة من الآيات القرءانية المؤيدة لهذا الطرح ثم ينتقل خطوة أخرى لإثبات الحاجة إلى المنطق وتأسيس ذلك شرعا استناداً على قوله تعالى ” فاعتبَبِروا يا أُولي الأبصار الحشر :2 ) والإعتبار بحسب تعريفه هو : إستنباط المجهول من المعلوم ، واستخراجه منه ابن رشد فصل المقال ص 38 ) وهذا هو معنى القياس الذي يعده ابن رشد أهم وسائل النظر العقلي وأفضل أو أتم أنواع القياس هو القياس البرهاني لهذ يرى ابن رشد من الضروري لطالب الحكمة أن يتدرج في معرفة القياس وأنواعه وشروطه ومنها القياس البرهاني. ويرد ابن رشد على عد الفلسفة بدعة لم تكن معروفة في الصدر الأول بقوله أن أغلب العلوم الملية ومنها الفقه لم تكن معروفة في الصدر الأول ولكن الحاجة إليها دعت لاستحداثها ويشير ابن رشد أن هذه العلوم تحتاج لكشفها ومعرفتها على وجه الدقة لجهود علمية كبيرة وتظافر أمم في تحصيلها، لذا لا يرى ضير بالإستعانة بعلوم الأوائل وإن خالفونا بالملة فهي علوم حيادية مثلها مثل أية آلة يمكن أن نستعملها. وبعد أن يثبت ابن رشد وجوب النظر العقلي وجوباً كفائياً على الحكماء والخاصة من العلماء، كما أثبت أن من حق العلماء والفلاسفة الإجتهاد في مسائل الوجود ونفى تُهم الغزالي ضد الفلاسفة وتكفيرهم في ثلاث مسائل هي مسألة قدم العالم وحدوثه ومسألة علم الله هل هي بالكليات والجزئيات أم فقط بالكليات دون الجزئيات ومسألة حشر الأجساد وأحوال المعاد وأكد أن هذه المسائل لا إجماع فيها بين علماء الأمة ولا تخرج المجتهد فيها من دائرة الإيمان ألتي حددها ابن رشد في الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر والثواب والعقاب الآخروي.
وفي كتابه الكشف عن مناهج الأدلة يحاول ابن رشد إكمال أطروحته السابقة بعد أن قرر بجواز النظري العقلي والفلسفي، بنقد مناهج السابقين عليه من المتكلمين والمتصوفة والفلاسفة ومن ثم يقدم منهجه الجديد المتمثل بقانون تأويل النص الديني. سنؤجل الحديث في نقده للمدارس الكلامية والفلسفية إلى فقرات لاحقة وننهي كلامنا في مسألة التوفيق بقانون التأويل لديه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.